ذهب المحقّق الخراسانی(رحمه الله) إلى أنّ تمایز العلوم بتمایز الأغراض واستدلّ علیه بوجهین:
الأوّل: إنّه لو لم یکن بالأغراض فلیکن بالموضوعات وهو یستلزم أن یکون کلّ باب بل کلّ مسألة من کلّ علم علماً على حدة لشموله على موضوع على حدة.
الثانی: أنّ التمایز بالموضوعات یلزم منه تداخل العلوم بعضها فی بعض لأنّه قد یکون شیء واحد موضوعاً لمسألة یبحث عنها فی علوم عدیدة (کموضوع «التوبة» فإنّها یبحث عنها فی علم الفقه فی باب العدالة وفی علم الکلام والتفسیر والأخلاق لارتباطها ببعض مسائل کلّ منها کما لا یخفى).
لکنّ المشهور أنّ تمایز العلوم بالموضوعات کما هو الظاهر من تعریفهم لموضوع کلّ علم بأنّه ما یبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة.
وحیث إنّ بعضهم لاحظ اشتراک بعض العلوم مع بعض آخر فی الموضوع کاشتراک علم الصرف مع علم النحو واللّغة والبلاغة فیه (حیث إنّ الموضوع فی جمیعها هو الکلمة فیلزم منه اندراجها فی علم واحد) فقد أضاف إلى تعریف المشهور قیداً آخر وهو قید الحیثیّة، وقال إنّ تمایز العلوم بتمایز الموضوعات مقیّدة بقید الحیثیّات، فإنّ موضوع علم الصرف مثلا هو الکلمة من حیث تصریفها، وموضوع علم النحو هو الکلمة من حیث الاعراب والبناء، وموضوع علم اللّغة الکلمة من حیث المعنى وهکذا ...
وعلّق علیه المحقّق الإصفهانی(رحمه الله) بأنّه «لیس الغرض من تحیّث الموضوع کالکلمة والکلام بحیثیّة الاعراب والبناء فی النحو وبحیثیّة الصحّة والاعتلال فی الصرف أن تکون الحیثیات المزبورة حیثیة تقییدیّة لموضوع العلم، إذ مبدأ محمول المسألة لا یعقل أن یکون حیثیة تقییدیّة لموضوعها ولا لموضوع العلم وإلاّ لزم عروض الشیء لنفسه، ولا یجدی جعل التحیّث داخلا والحیثیة خارجة لوضوح أنّ التحیّث والتقیید لا یکونان إلاّ بملاحظة الحیثیة والقید، فیعود المحذور، بل الغرض من أخذ الحیثیات کما عن جملة من المحقّقین من أهل المعقول هو حیثیة استعداد ذات الموضوع لورود المحمول علیه، مثلا الموضوع فی الطبیعیّات هو الجسم الطبیعی لا من حیث الحرکة والسکون الفعلیین کیف ویبحث عنهما فیها بل من حیث استعداده لورودهما علیه ... وفی النحو والصرف الموضوع هی الکلمة مثلا من حیث الفاعلیة المصحّحة لورود الرفع علیها ومن حیث المفعولیّة المعدّة لورود النصب علیه ...»(1).
وهذا یمکن أن یکون قولا ثالثاً فی المسألة.
وهیهنا قول رابع وهو ما أفاده فی تهذیب الاُصول من أنّ تمایز العلوم یکون بذواتها فإنّه قال: «کما أنّ منشأ وحدة العلوم إنّما هو تسانخ القضایا المتشتّة التی یناسب بعضها بعضاً ...
کذلک تمایز العلوم واختلاف بعضها یکون بذاتها فقضایا کلّ علم مختلفة ومتمیّزة بذواتها عن قضایا علم آخر»(2).
أقول: الإنصاف أنّ جمیع هذه الأقوال لا یخلو من الإشکال، والأولى أن یقال: إنّ تمایز العلوم کوحدتها قد یکون بالموضوعات واُخرى بالمحمولات وثالثة بالأغراض وذلک لما مرّ فی البحث عن ملاک الوحدة من تحلیل تاریخی لتدوین العلوم وتألیفها، فقد ذکرنا فیه أنّ ملاک وضع کلّ علم على حدة وتمییزه عن سائر العلوم هو وجود التناسب والتناسخ بین مسائله ودخولها تحت عنوان جامع، ولا إشکال فی أنّ تناسب المسائل قد یکون بوحدة الموضوع واُخرى بوحدة المحمول وثالثة بوحدة الغرض فلیکن التمایز أیضاً کذلک کما لا یخفى.
وأمّا مقالة المشهور فلا یتصوّر لها دلیل إلاّ توهّم احتیاج کلّ علم إلى موضوع لقاعدة الواحد، وقد مرّت المناقشة فیها. ومنه یظهر إشکال القول الثالث حیث إنّه مبنی على قبول أن یکون تمایز العلوم بتمایز الموضوعات.
وأمّا ما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فیرد على دلیله الثانی أنّ تداخل علمین فی عدّة من مسائلهما لا یضرّ بتمایز أحدهما عن الآخر إذا کانت النسبة بین مسائلهما العموم من وجه، لأنّ التمایز حینئذ یحصل بموضع الافتراق کما لا یخفى.
کما یرد على دلیله الأوّل أنّ القائل بکون التمایز بالموضوعات یدّعی أنّ تمایز العلوم یکون بتمایز الموضوعات لا العکس (وهو أنّ کلّ متمایز بموضوعه یکون علماً على حدة).
وأمّا ما أفاده فی تهذیب الاُصول فیرد علیه أنّ ذوات العلوم لیست أمراً خارجاً عن مسائلها لأنّه لا ریب فی أنّ مسائلها عبارة عن القضایا المبحوثة عنها فیها، والقضایا لیست أمراً وراء الموضوعات والمحمولات والنسب بینهما، فذوات العلوم عین موضوعاتها ومحمولاتها ونسبها، فلابدّ أن یکون التمایز بأحد هذه الاُمور أو بالأغراض.