غالباً ما یُشتبه بین (التفاوت) و(التبعیض) ویأخذ الثانی الذی له صفة سلبیة مکان الأول الذی له صفة إیجابیة فی الکثیر من المواقع.
ولزیادة التوضیح: یُقصد من (التبعیض) هو أن نُفرّقَ بین موجودین یحملان نفس الشروط تماماً، مثلا أن نُعطی أحد العاملیْن اللذیْن أنجزا عملا متشابهاً أجراً ضعف أجر الآخر، أو نعاقب أحدهما نصف عقوبة الآخر إذا ارتکبا عملا قبیحاً، وهما یحملان نفس الشروط أیضاً، أو أن نعفو عن أحدهما تماماً ونعاقب الآخر أشَدّ العقاب.
ولکن إذا کانت الأعمال الإیجابیة والسلبیة متفاوته مع بعضها أو اختلف الفاعلون عن بعضهم، لکان التفریق فیما بینهم عین العدالة.
هذا من حیث الثواب والعقاب، أمّا من حیث الخلق والتکوین فإنّ عالم الخلق مجموعة من الموجودات المتفاوتة تماماً، لأنّ لکل منها وظیفتها الخاصّة، ویلزم تناغم الخلق والوسائل والإستعدادات معها.
ومن خلال نظرة إلى أعضاء بدن الإنسان نُشاهد أنّ بعض خلایا البدن بدرجة من الظرافة بحیث یختل نظامها لأقل ضربة، أو حتّى هبوب نسیم معین، أو انبعاث نور شدید، (کشبکیّة العین) لذا نجد أنّها موضوعة فی محفظة قویة جدّاً لکی تکون بعیدة تماماً عن ساحة الحوادث، وهذه الخلقة اللطیفة والظریفة جدّاً، إنّما هی بسبب الواجب الحسّاس جدّاً الملقى على عاتقها وهو (التصویر المستمر للمشاهد المختلفة من مسافات بعیدة وقریبة وفی أجواء متفاوتة).
وهنالک خلایا صلبة ومحکمة ومقاومة جدّاً، کخلایا عظام کعب القدم، أو عظام الساق التی علاوةً على تحمّلها جمیع وزن البدن، یجب أن تکون مُقاومة للضربات القویة والصدمات.
فلا یُمکن إذن لأی عاقل أن یعترض على تفاوت بُنیة هذیْن العضویْن؟ أو یعترض على عدم خلق جمیع خلایا البدن بنفس ظرافة خلایا شبکیّة العین، أو بنفس صلابة خلایا الساق، أو القدم، أو بنفس سُمک جلد کعب القدم؟
ویُمکن إجراء نفس هذه الحسابات بخصوص أعضاء شجرة أزهار صغیرة مع شجرة کبیرة ابتداءً من جذورها القویّة، إلى سیقانها، وأغصانها الصغیرة والکبیرة، وبالتالی أوراقها مع أوراق الأزهار والشعیرات الصغیرة الدقیقة الموجودة فی داخل کُلّ زهرة.
ولو أمعنّا النظر جیّداً لوجدنا أنّ أقسام المجتمع البشری تشبه تماماً أعضاء بدن الإنسان أو شجیرة أزهار صغیرة وشجرة کبیرة.
فصنع النظام الأحسن یفرض وجود التفاوت فی استعدادات وأذواق أفراد المجتمع وبنائهم الروحانی والجسمانی، لیتناسب کُلُّ واحد منهم مع الواجب الذی یُلقیه نظام الخلق على عاتقه ویتمکّن منه، وإلاّ لتبعثر کُلّ شیء، ولما کان هنالک نظامٌ أحسن، ولصار الوجود کالشجرة التی جمیعها جذور أو سیقان أو أوراق فقط، ومن قبیل هذه الشجرة لا تستطیع أن تواصل الحیاة لأکثر من فترة قصیرة، وإن کانت قادرة فلا فائدة منها.
فلا یُمکن أن یتساوى ترکیب وجود الأم، التی یجب أن تکون کتلة من العواطف لتقوى على تحمل کل مشقّات حفظ وتربیة الأولاد، مع ترکیب وجود الأب، الذی یجب أن یُمارس عمله دائماً فی قلب المجتمع، لأنّ العکس معناه إمّا تلاشی دور الأمومة أو تعطیل دور الأبّوة.
وکذا لا یُمکن أن یتساوى ترکیب أعصاب جرّاح للقلب مع اعصاب شاعر دقیق النظر، أو عالم فی الریاضیات مع مهندس زراعی، أو کلاهما مع عامل صناعات ثقیلة، وهؤلاء الثلاثة مع جندی أو ضابط عسکری، وهؤلاء الأربعة مع قاض مُعیَّنْ، لأنّ لکل واحد منهم وظیفته الخاصّة فی المجتمع وله ذوق واستعداد وبناء جسمانی روحانی خاص مناسب لذلک.
وهذا المطلب بدرجة من الوضوح بحیث لا یحتاج إلى زیادة فی التوضیح، وبالأساس أنّ من إحدى دلائل عظمة الله هی هذا التقسیم الدقیق للأذواق والاستعدادت التی تُشکّل جمیعها مجموعة متعادلة ومتوازنة کلٌّ فی محله الخاص!
وخلاصة الکلام هی أنّ البشر لیس کالأوانی المتشابهة التی تُصنع فی معمل واحد، ولجمیعها فائدة واحدة، فلو کان کذلک لما استطاعوا العیش مع بعضهم حتى یوماً واحداً، فالمهم فی حیاة البشر وجمیع عالم الخلق هو العدالة لا المساواة، ووضع کل شیء فی محلّه لا التشابه.
وللقرآن الکریم إشارات غنیّة فی هذا المجال، حیث قال فی موضع: (وَرَفَعنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات لِّیتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِیّاً). (الزخرف/ 32)
«سُخریّاً»: مشتقة من مادّة (تسْخیر)، ومفهوم الآیة هو: إنّ تفاوت درجات الناس تؤدّی إلى تسخیر بعضهم بعضاً، أو تدفع بهم إلى التعاون المتقابل، فالمریض مُسَخّرٌ للطبیب والطبیب مُسخّر للمعمار فی حوائج اُخرىْ، أو الفلاح مسخّر للتاجر، لأنّ لکل واحد منهم أفضلیّة على الآخر من جهة معینة، وهذه بذاتها تُوجِد (الخدمات المتقابلة) أو (التسخیر) وفق التعبیر القرآنی.
وقد اتفق أغلب المفسّرین الإسلامیین من الشیعة والسُّنة على تفسیر الآیة بهذا الشکل، أی کون المقصود من (سُخریّاً) هنا هو التسخیر فی الخدمات المتقابلة(1).
والقول بأنّ المقصود من (سُخریّاً) هو (الإستهزاء) احتمالٌ ضعیفٌ جدّاً طُرح فی بعض التفاسیر بعنوان رأی غیر مقبول.
ونُلاحظ فی موضع آخر: (وَرَفَعَ بَعضَکُم فَوقَ بَعض دَرَجات لِّیَبلُوَکُم فِى مَا آتَاکُمْ). (الأنعام/ 165)
ونظراً إلى عدم کون هدف الإمتحان الإلهی معرفة حقیقة الأشخاص واکتشاف الأمور الخفیّة، لأنّ الله محیط بکل شیء علماً، بل المقصود منه تربیة البشر فی البلاء والإمتحان لیخلُصوا ویقوى تحملهم، وبتعبیر آخر: إنّه وسیلة لتکاملهم، لذا فالآیة تقول: إنَّ هذا سبب التکامل (المادی والمعنوی).
وهناک نموذجٌ آخر: هو ما جاء فی الآیات التی تُشیر إلى تفاوت واختلاف نصیب الناس من الأرزاق، فغالباً ما یَسأل بعض الأفراد: لِمَ هذا غنیٌّ وذاک فقیر؟ والقرآن یُجیب عن هذا السؤال بصورة إجمالیة من خلال الآیات المختلفة ویقول: إنّ تقسیم الرزق بین العباد یجری وفق حساب دقیق وبرنامج منظّم مفعم بالأسرار، ولو أنّ الناس لا یعلمونه، کما ورد فی سورة الإسراء: (إِنَّ رَبَّکَ یَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن یَشَآءُ وَیَقدِرُ إِنَّه کَانَ بِعِبَادِهِ خَبِیراً بَصِیراً). (الاسراء/ 30)
طبعاً یجب عدم خلط التفاوت الإلهی الواقعی والطبیعی مع التفاوت الوضعی الناشىء عن الإستثمار والاستعمار، واحتسابها جمیعاً على إرادة الله، فالمسألة تتخذ طابعاً آخر فی هذه الحالة وتخرج بشکل تفسیر انحرافی وتؤدّی إلى التخلُّف الأقتصادی والاجتماعی، والقرآن مخالف جدّاً للنوع الثانی، بل ویُحاربه أیضاً.
ویُلاحظ فی الروایات الإسلامیة وجود إشارت غنیّة بشأن هذا المطلب، کقول علی(علیه السلام): «لا یزال الناس بخیر ما تفاوتوا فإذا استووا هلکوا»( 2).