لقد استند القرآن الکریم فی آیات عدیدة إلى جوانب مختلفة من حیاة النحل حیث کلٌ منها اعجبُ من الآخر ، فقد أشارَ أولا إلى مسألة بناء بیوته ، قائل : ( وَأَوْحَى رَبُّکَ اِلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبالِ بُیُوْتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا یَعْرِشُونَ ) .وقد یکون التعبیر بـ «اتَّخذی» بصیغة الفعل المؤنث إشارة إلى أنَّ النَّحلَ عندما یهاجر لاختیار بیت جدید فهو یسیر خلف « الملکة » التی هی بمنزلة القائد فی الخلیّة ، وعلیه فانَّ المتنفذ الحقیقی هی « الملکة » .والتعبیر بـ «أوحى» تعبیرٌ جمیلٌ حیث یبرهنُ على أنَّ الله تعالى قد علَّمَ هذا الحیوان طراز بناء البیت الذی یُعدّ من أروع أعمال هذه الحشرةِ بواسطةِ الهام خفیٍّ وسیأتی شرحه فی « التوضیحات » إن شاء الله ، وهی تقوم بانجاز واجباتها على أفضل وجه وفقاً لهذا الوحی الإلهی ، فقد تختار صخور الجبال ، أو بطون الکهوف لبناء بیوته ، وتضع الخلیة بین أغصان الأشجار أحیان ، وقد تستخدم الخلایا الاصطناعیة التی یصنعها الإنسان لها على القصب ، أو أنّها هی التی تقوم ببناء البیت على القصب .إنَّ ألفاظ الآیة تدللُ جیداً على أنَّ بناء البیت هذا لیس بناءً عادیاً وإلاّ لما عبَّر عنه القرآن بالوحی ، وسنرى عاجلا أنَّ الأمر هکذ .
وفی الآیة الثانیة توجَّه نحو صناعة عسل النحل مضیف : أنَّ الله قد أوحى لها أن تأکل من جمیع الثمار : ( ثُمَّ کُلِى مِنْ کُلِّ الَّثمَراتِ )« واقطعی الطرق التی یَسَّرها وسخَّرها لکِ ربُّکِ لتکوین العسلِ الحلو »: ( فَاسْلُکِى سُبُلَ رَبِّکِ ذُلُل ) .« سُبُل»: جمع « سبیل » وتعنی « الطریق الیسیر » (1) .
وهن : ما المقصود من هذه السُبُل فی الآیة أعلاه ؟ لقد أبدى المفسِّرون احتمالات مختلفة :فقال بعضهم : المقصود هی الطرق التی یطویها النَّحلُ نحو الأزهار ، والتعبیر ب «ذُلُل» ( جمع « ذلول » وتعنی التسلیم والطاعة ) (2) یدللُ على أنَّ هذه الطرقَ تُعیَّنُ بدقة بحیث یکون ارتیادها سهلا وعادیّاً للنحل ; وتؤیدُ دراساتُ خبراء النحل هذا المعنى أیض ، فهم یقولون :
تخرجُ مجموعةٌ من النحل مکلفةٌ بتشخیص مکان الأزهار صباح ، من الخلّیةِ ، وبعد اکتشاف المناطق الملیئة بالأزهار ترجع ، وتعطی للباقین العنوان الکامل لذلک المکان بشکل سریٍّ ومدهش ، وقد تشَخِّصُ الطریق بوضعها علامات علیه متکونة من مواد ذات رائحة خاصة ، وبنحو لا تضل أیّة نحلة باتباعه .وقال بعضهم الآخر أیض : إنّ المقصود هو طریق العودةِ إلى الخلیة ، لأنَّ النحلَ قْدَ یُجبَر على قطع مسافات طویلة ، ولا یبتلى بالتیه عند عودته ، فهو یتجه نحو الخلیّة بدقة ، بل وأنّه یعثر على خلیته بیُسر من بین عشرات الخلایا المشابهة .وقال آخرون : إنَّ «السُبُلَ» هنا لها معنىً مجازیٌّ فهی تشیر إلى الاسالیب التی یتبعها النحلُ لإعداد العسل من رحیق الأزهار ، فهی تمتص رحیقَ الأزهار بنحو خاص ترسله« حوصلته » وهناک حیث تکون کمختبر للمواد الکیمیائیة یتبدل إلى « عسل » من خلال التغییرات والتطورات التی تجری علیه ، ثم یستخرجه الزنبور من حوصلته .أجَلْ .. إنّه یعرف الاسلوب اللازم لاجراء هذا العمل جید ، من خلالِ أمر إلهیٍّ فیسلکُ هذا الطریق بدقّة .ونظراً إلى أنّ هذه التفسیرات الثلاثة لا تتعارض فیما بینها وکون ظاهر الآیة عاماً، فیمکن القول : بشمول جمیع هذه المفاهیم ، إذ یقطع النحل هذه الطرق الملتویة والمنحنیة بالاستفادة من الشعور الذی منحه الله له ، أو بالالهام الغریزی ، ویستخدم هذه الأسالیب بکل مهارة واقتدار .وفی المرحلةِ الآتیة أشار إلى صفات « العسل » وفوائده وبرکاته قائل : ( یَخْرُجُ مِنْ بُطُوْنِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) .وقد حَمَل بعضهم التعبیر بـ «بُطُوْنِ» ( جمع بطن ) على معنى مجازیٍّ وقالو : إنّها تعنی الأفواه ، وقالوا إنَّ العَسَل الذی هو رحیق الأزهار مخزون فی فم النَّحل ثم ینتقل إلى الخلیّة (3).
بینما یعتقد بعضهم أنَّ العسل هو فضلات النحل !ویعتبره بعضهم الآخر من المسائل الخفیّة التی لم تُکتشف لحد الآن (4).ولکن بحوث العلماء برهنت على عدم صواب أیٍّ من هذه الآراء کما أشرن، بل إنّ النحلَ یُرسلُ رحیق الأزهار إلى مکان خاص فی جسمه یسمى « الحوصلة » وبعد أن یجری علیه تغییرات وتطورات یقذفه خارجاً من فمه (5).والتعبیر بـ «بُطون» شاهدٌ على هذا المعنى ، واجلى منه التعبیر بـ « کُلی » ، لأنَّ العربَ لا یقولون لحفظ الشیء فی الفم « أکل » أبد ، وحمل هذه الجملة على المجاز تفسیرٌ مجازیٌ لا ضرورة له .وأمّا المقصود من ( ألوان مختلفة ) هنا فهی ذات تفاسیر متباینة أیض ، فقد اعتبرها بعضهم بمعنى هذا « اللون » الظاهری الذی یتفاوت فیه العسل فبعضه أبیضٌ شفاف ، وبعضٌ أصفر ، والآخر أحمر اللون ، وبعضُه یمیلُ إلى السواد ، ویمکن أن یکون هذا التباین مرتبطاً باختلاف أعمار النحل ، أو مصادر الأزهار التی یتغذى علیه ، أو کلیهم .وقد اُحتملَ أیضاً أن یکون المقصود من هذا التفاوت ( نوعیة ) العسل ، فبعضٌ غلیظ ، وبعض خفیف ، أو أنّ عسلَ الأزهار المختلفة له آثار ومزایا مختلفة أیض ، کما یختلف العسل العادی کثیراً عن « الشهد » ( العسل الخاص الذی یُصنع لملکة الخلیّة ) ، لأنَّ المشهور أنَّ لـ « الشهد » قیمةً من الناحیة الغذائیة بحیث یزید کثیراً فی عمر الملکة ولو تمَّکنَ الإنسان أن یتغذى علیها فإنّها تترکُ اثراً عمیقاً فی طول عمره .وفی بعض البلدان هناک حدائق من ورود متشابهة حیث تُنصب فیها الخلایا الخاصة بالنحل ، وبهذا تُستخلص أنواع مختلفة من العسل کلٌ منها مستخرجٌ من زهر خاص ، ویتمکن الراغبون من شراء العسل من الورد الذی یرغبونه ، وبهذا نواجه ألواناً مختلفةً من العسل تدخل فی المفهوم الواسع والعام للآیة .والتعبیر بـ ( شراب ) جاء لأنَّ العرب لا یستخدمون لفظ « أکل » بخصوص العسل کما یقول بعض شّراح لغة العرب ، ویُعبر عنه بالشرب دائماً ( ولعلَّه بسبب أنَّ العسلَ فی تلک المناطق یکون خفیف )(6) .وفی الختام أشار إلى تأثیر العسل فی العلاج قائل : ( فِیْهِ شِفـاءٌ لِلنَّاسِ ) .والتعبیر بـ ( شفاء ) بصیغة النکرة ، إشارةٌ إلى أهمیّته الفائقة ، وکما سیأتی فی التوضیحات إن شاء الله ، فللعسل الکثیر من المزایا العلاجیة الجاهزة التی تحتوی علیها الأزهار والنباتات الطبیة الموجودة على الکرة الأرضیة ، وقد ذکر العلماء لا سیما فی هذا العصر خصائص عدیدة له تشمل الجانب العلاجی وجانب الوقایة من الأمراض أیض .فللعسل تأثیرات مذهلة فی علاج الکثیر من الأمراض وهذا یعود إلى الفیتامینات والمواد الأساسیة التی یحتویه ، حیث یمکن القول : ( إنَّ العسلَ یخدم الإنسان علاجیاً وصحیّاً وجمالی ) .وفی نهایة الآیة أشار إلى الجوانب الثلاثة الآنفة ( بناء خلیة النحل ، طریقة جمع رحیق الأزهار وصناعة العسل ، وخصائصه العلاجیة ) فیقول : ( إِنَّ فِى ذَلِکَ لاَیةً لِّقَوْم یَتَفَکَّرُونَ ) .وعلیه ففی کل مراحل حیاة النحل ، واستخراج محصول هذه الحشرة الذکیة والمثابرة ، تظهر للعیان آیةٌ بل آیاتٌ لعلمِ وقدرة الخالق جلَّ وعلا الذی ابتدعَ مثل هذه الظواهر المذهلة .