ونقرأ فی حدیث توحید المفضل عن الإمام الصادق(علیه السلام) حیث قال:
«فکّر یا مفضل فی هذا النبات وما فیه من ضروب المآرب، فالثمار للغذاء، والأتبان للعلف، والحطب للوقود، والخشب لکل شیء من أنواع النجارة وغیرها، واللحاء والورق والاصول والعروق والصموغ لضروب من المنافع، أرأیت لو کنّا نجد الثمار التی نتغذى بها مجموعة على وجه الأرض ولم تکن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها کم کان یدخل علینا من الخلل فی معاشنا، وإن کان الغذاء موجوداً فإنّ المنافع بالخشب والحطب والأتبان وسائر ما عددناه کثیرة، عظیم قدرها جلیل موقعها هذا مع ما فی النبات من التلذذ بحسن منظره ونضارته التی لا یعد لها شیء من مناظر العالم وملاهیه.
فکّر یا مفضل فی هذا الریع الذی جعل فی الزرع فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأکثر وأقل وکان یجوز أن یکون الحبة تأتی بمثلها فلم صارت تریع هذا الریع إلاّ لیکون فی الغلّة متسع لما یرد فی الأرض من البذر وما یتقوت الزراع إلى إدراک زرعها المستقبل... تأمّل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلاء وما أشبه ذلک فانّها تخرج فی أوعیة مثل الخرائط لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشدّ وتستحکم کما قد تکون المشیمة على الجنین لهذا المعنى بعینه، فأمّا البُرّ وما أشبهه فانّه یخرج مدرّجاً فی قشور صلاب على رؤوسها مثال الأسنة من السنبل لیمنع الطیر منه لیتوفّر على الزراع... تأمل الحکمة فی خلق الشجر وأصناف النبات فانّها لما کانت تحتاج إلى الغذاء الدائم کحاجة الحیوان ولم یکن لها أفواه کأفواه الحیوان ولا حرکة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت اصولها مرکوزة فی الأرض لتنزع منه الغذاء فتؤدیه إلى الاغصان وما علیها من الورق والثمر فصارت الأرض کالأم المربیة لها وصارت اُصولها التی هی کالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغذاء کما یرضع أصناف الحیوان اُمهاتها.
تأمل یا مفضل خلق الورق فانک ترى فی الورقة شبه العروق مبثوثة فیها أجمع، فمنها غلاظ ممتدة فی طولها وعرضها، ومنها دقاق تتخلل الغلاظ منسوجة نسجاً دقیقاً معجماً لو کان ممّا یصنع بالأیدی کصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة فی عالم کامل ولاحتیج إلى آلات وحرکة وعلاج وکلام فصار یأتی منه فی أیام قلائل من الربیع ما یملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض کلها بلا حرکة ولا کلام إلاّ بالإرادة النافذة فی کل شیء والأمر المطاع».
ثم أشار الإمام(علیه السلام) فی سیاق هذا الحدیث إلى عجائب الثمار والنّوى، وموت وحیاة النباتات فی کل عام، وتلقیح وحمل الأجزاء الانثویة عن طریق الالتحام مع الأجزاء الذکوریة، وکذلک أدویة العلاج التی تستخلص من أصناف النباتات، والحبوب والنباتات التی یُعتبر کلٌ منها غذاء لأحدِ الحیوانات، وقدَّمَ شرحاً لطیفاً حول کلٍّ منها، حیث إنّ ذکرها جمیعاً لن یکون ممکناً، وبمقدور الراغبین مراجعة الحدیث أعلاه(1).
نضطرُ هنا إلى طی هذا البحث الطویل ونختمه ببعض الابیات من الشعر التوحیدی الأصیل، فلو اُطلقَ عنانُ العلمِ فیجبُ تألیفُ کتب عدیدة، فی هذا المجال یقول الشاعر نقلا عن الفارسیة:
إنَّ جمیع خلقِ اللهِ انذارٌ للقلب *** لیس له قلبٌ من لا یُقرُّ بالله
فالجبال والبحار والأشجار کلُّها تسبِّحُ *** ولا یفهمُ کلُّ مستمع هذه الأسرار!
والعقُل متحیرٌ من عنقود العنب الذهبی *** والذهنُ یَعجزُ عن حقیقة یاقوتة الرُّمان
وتتدلى عناقید الرَّطب من النخل *** والنخل من صنع قضاء وقدر ماهر
ولکی لا یصبح ظلاماً ظلُّ الأشجار الکثیف *** فقد وضع تحت کل ورقة مصباحاً من نور الرّمان
وهبط الندى على الزهرة عند حلول السحر *** یشبه عرق المحبوب المعطَّر!
فافتح بصرک وانظر خلقَ النارنج *** یا مَن لا تصدِّق أنَّ «فی الشجر الاخضر نار»
مقدرٌ منزَّهٌ الاله الذی سخرَّ *** الشمس والقمرَ بتقدیر وکذلک اللیل والنهار(2)