الحدیث فی أول آیة من البحث هو عن خلق السماوات والأرض واختلاف اللیل والنهار اللذین یحصلان نتیجة دوران الأرض حول نفسها مقابل الشمس إذ یقول تعالى : ( إِنَّ فِى ذَلِکَ لاَیات لاُِولى الأَلْبَاب ) .وکما أوضحنا فی بحوث المعرفة فی المجلد الأول من هذا التفسیر فانَّ «الالباب» جمع « لُبْ » أی العقل الصافی والعمیق ، نَعمْ .. فَمَنْ لهم مثل هذه العقول والألباب یستطیعون أن یَرَوا آیات وبراهین کثیرةً عن القدرة الإلهیّة فی خلق السماوات والأرض ، واختلاف اللیل والنهار ، ولیس آیة واحدةً أو برهاناً واحداً فقط .واللطیف ما جاء فی الروایة المشهورة الواردة فی الکثیر من التفاسیر فی تفسیر هذه الآیة حیث ورد فیه : قال ابن عمر : قلت لعائشة اخبرینی بأعجب ما رأیت من رسول الله (صلى الله علیه وآله) ، فبکت وأطالت ثم قالت : کل أمره عجب ، أتانی فی لیلتی فدخل فی لحافی حتى الصق جلده بجلدی ، ثم قال لی : یا عائشة هل لک أن تأذنی لی اللیلة فی عبادة ربی ؟ فقلت یا رسول الله إنّی لأحب قربک وأحبّ مرادک قد أذنت لک ، فقام إلى قربة ماء فی البیت فتوضأ ولم یکثر من صبّ الماء ، ثم قام یصلی ، فقرأ من القرآن وجعل یبکی ، ثم رفع یدیه فجعل یبکی حتى رأیت دموعه قد بلت الأرض ، فأتاه بلال یؤذن لصلاة الغداة فرآه یبکی ، فقال : یا رسول الله أتبکی وقد غفر الله لک ما تقدم من ذنبک وما تأخر ؟فقال (صلى الله علیه وآله) : یا بلال أفلا أکون عبداً شکور ، ثم قال : ما لی لا أبکی وقد أنزل الله فی هذه اللیلة: ( إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ) ، ثم قال : «ویل لمن قرأها ولم یتفکر فیها» (1) .صحیحٌ أنّ کلَّ من ینظر إلى السماوات والأجرام السماویة یهتدی إلى آیات من آیات الله تعالى ، إلاّ أنَّ ذوی العقول والألباب یستفیدون أکثر من سواهم ، فهؤلاء یَرَوْنَ آثارَ قدرةِ الله تعالى فی کلِّ مکان من السماء ، فهم یجدون فی خلق کلِّ منظومة ، وکلِّ مجرَّة ، وفی حرکاتها المنظَّمةِ العجیبةِ أسراراً لم یجدها سوى اُولی الألباب .وما یلفت النظر انّهُ ذُکر فی الآیة الثانیة ( قَوْمٌ یَعْقِلُوْنَ ) بدلا من ( اُولى الأَلْبَابِ ) ، وفی الآیة الثالثة «عالِمین» ، والرابعة والخامسة «مؤمنین» .وفی الحقیقة ، کما ورد من تفصیل سابق فی بحث ( مصادر ومجالات المعرفة ) فی المجلد الأول من هذا التفسیر فانَّ کلا من المیزات أعلاه ( الالباب ، التعقل ، العلم ، والإیمان ) تعتبر أرضیةً مناسبةً للمعرفة والاطلاع بشکل أکثر عن آیات الله .وهذه مسألةٌ جدیرةٌ بالاهتمام حیث یصف القرآنُ الکریم ( اُولى الألْباب )الذین تُفتَحُ أمامهم أبوابُ معرفةِ الله من خلال مشاهدة خلق السماوات والأرض إذ یقول تعالى : ( الَّذِیْنَ یَذْکُرُونَ اللهَ قِیَامَاً وَقُعُوداً وَعَلىَ جُنُوبِهِمْ وَیَتَفَکَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِل ) .(آل عمران / 191) أی أنّ ذکر اللهِ أول ، والتفکُّر ثانی ، والتأمل فی الهدف من الخلق ثالث ، یُدّلُهمْ کل ذلک على عظمة الخالق جلّ وعل .وعلى هذا الأساس فإنّ تلکؤ علماء الطبیعة فی معرفة الله سبحانه وتعالى بالرغم من معرفتهم لدقائق الأمور فی هذا الوجود یعود إلى أنّهم اعتمدوا فی بحوثهم على دراسة المعلول والمخلوق ولم یهتموا بدراسة علة العلل و خلق الوجود والهدف من الخلق.
وکما فی الآیة الاُولى فقد وردت مسألة خلق السماوات والأرض فی الآیة الثانیة ، إلى جانب اختلاف اللیل والنّهار ، أی مجیء وذهاب اللیل والنهار ( أو اختلافهما التدریجی على مدى فصول السنة ) ، حیث یمثل ذلک إحدى الظواهر البارزة فی السماوات والأرض ، إذ یسود النظام الدقیق هذه الظاهرة منذ أزمنة طویلة ، ویمکن تحدید لحظة شروق الشمس وغروبها قبل حصولهم ، والحدود الدقیقة للیل والنّهار فی کل فصل وکلَّ زمان من السنة ، ولأی بقعة من بقاع الأرض ، ونعلمُ جیداً بانّه أینما یوجد نظامٌ دقیق فانّه یکمنُ وراؤه علمٌ وعقلٌ ولبٌ مدبرٌ .
وفی الآیة الثالثة ذکر مسألة اختلاف الألسن والألوان ، التی هی من آیات الأنفس ، إلى جانب مسألة خلق السماوات والأرض التی هی من آیات الآفاق ، حیث یقول تعالى : ( وَمِنْ آیَاتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وأَخْتِلافُ أَلْسِنَتِکُمْ وَالْوانِکُمْ ) .
وقد یکون اختلاف الألسن والألوان بمعنى اختلاف اللغات التی یتکلم بها الناس ، وألوان وجوههم ، أو بمعنى لحن أصواتهم واُسلوب حیاتهم ، وتفکیرهم وأذواقهم ، وقابلیاتهم ، أو جمیعه ، فهذا التنوع العجیب الذی یکون وسیلة لتعرف الناس على بعضهم ، وإلى عدم خلو أیٍّ من المناصب الاجتماعیة ، من خلال النظام الدقیق الذی یسودُه ، لا ینفصل عن النظام العجیب السائد فی السماوات والأرض بل یرتبطان مع ، وکلٌ دلیلٌ على عظمة وقدرة وتدبر الذات المقدسةِ للهِ ، عزّ وجلّ.
وتشیر الآیتان الرابعة والخامسة إلى خلق السماوات والأرض فقط ، وتَعُدُّهُ من آیات اللهِ ، لأنّ ممّا لاریب فیه أنّ هذا الخلق العظیم هو من آیات الله البینات ، غیر أنَّ الآیة الخامسة استندت إلى مسألة التقنیین والهدف من هذا الخلق وبیانه من خلال تعبیر «بالحق» .
وفی الآیة السادسة طُرحَ موضوعٌ جدیدٌ ألا وهو خلق السماوات والأرض فی ستة أیّام ، إذ یقول تعالى : ( إِنَّ رَبَّکُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَواتِ وَالاَرْضَ فِى سِتَّة أَیَّام ) .
وقد ورد ذکر خلق السماواتِ والأرض فی ستة أیّام فی سبع آیات من القرآن الکریم (2).وهذا یُبرهنُ على أنّ ( القرآنَ الکریم ) یولی اهتماماً خاصاً لمسألةِ الخلق التدریجی للعالم ، وهو بذاته دلیلٌ آخر على عظمة الخالق جلَّ وعل .ومع أنَّ بعضَ المادیین غیر الواعین وبسبب عدم معرفتهم لمعنى «الیوم» ، انتقدوا مثل هذه الآیات واستهزؤوا به (3) حیث إنّهم یعتقدون أنّ «الیوم» هنا بمعنى بیاض النهار أو (الأربع وعشرین ساعة ) ، إلاّ أنّ الجمیع یعلم أنّ الیومَ بهذا المعنى هو ناتج من حرکةِ الأرض وضوء الشمس ، وعندما لم یکن وجودٌ للسماوات والأرض لم یکن هناک مفهوم للیل والنهار بهذه الهیئة .فقد غَفَلَ هؤلاء عن هذه المسألة وهی أنّ کلمة «الیوم» وما یماثلها فی بقیة اللغات لها معان مختلفة من حیث المفهوم والاستعمالات الیومیة ، فمنها ما یعنی « المرحلة » وقد تکون هذه المرحلة قصیرةً أو طویلةً جدّ ، کما یقول الراغب فی کتاب ( المفردات ) الذی هو من الکتب اللغویة المعروفة : الیومُ یُعَّبرُ به عن وقت طلوع الشمسِ إلى غروبه ، وقَدْ یُعبر به عن مدة مِنَ الزَّمانِ أیَّ مدة کانت .ونقول فی الاستعمالات الیومیة ، إنَّ الناس کانوا فی یوم ما یسافرون على ظهور الحیوانات ، والیوم بوسائط النقل السریعة ، وکلا هذین التعبیرین ( یومٌ ، والیوم ) إشارة إلى حقبة طویلة ، ونقرأ فی الحدیث المعروف عن أمیر المؤمنین (علیه السلام) : « واعلَمْ بأنَّ الدَّهرَ یومانِ : یومٌ لکَ ویومٌ علیک »(4) .بل إنّ الدنیا کلها عُدَّت یوماً واحد ، وکذلک کل الآخرة فی بعض العبارات ، فیقول أمیر المؤمنین (علیه السلام) : « وإنَّ الیوم عملٌ بلا حساب ، وغداً حسابٌ بلا عمل » .والبیتان المعروفان عن الشاعر کلیم الکاشانی تعبیر لطیفٌ فی هذا المجال ، وهذه ترجمتهما العربیة :
إنَّ الحیاة سیئة الصیت یومان لیس اکثرَ(کلیم)فدَعْنی اُخبرکَ کیف مضت ؟
فیومٌ مرَّ بتعلُّقِ القلبِ بهذا وذاکویوم آخر مضى بانقطاع القلب عن هذا وذاکوعلیه فانَّ المقصود من خلقِ السماوات والأرض فی ستة أیّام هو ست مراحل ، وقد تمتد کلُّ مرحلة من هذه المراحل ملایین أو آلاف الملایین من السنین ، ومن الواضح عدم توفُّرِ أیِّ دلیل یعارض هذا التحدید من الناحیة العلمیة (5).ولکن من المحتمل أن تکون هذه المراحل الست حسب التسلسل الآتی :1 ـ مرحلةٌ کانَ العالمُ کلَّه فیها مجامیعَ عظیمةً جدّاً من الغازات التی تدور حول نفسه .2 ـ مرحلةُ انفصال هذه الغازات عن بعضها والدوران حول محور المجموعة المرکزیة .3 ـ المرحلة التی فیها شکَّلت بعض هذه المجامیع بسبب دورانها حول نفسها منظومات کمنظومتنا الشمسیة.
4 ـ المرحلة التی تکونت فیها الأرض واستعدت للحیاة ، وظهرت علیها المیاه ، وتکونت البحار .5 ـ مرحلةُ ظهور الأشجار والنباتات وتهیئة الأقوات والأطعمة على الأرض .6 ـ مرحلة ظهور الحیوانات وبعدها الإنسان على الأرض .والمسألة الجدیرة بالاهتمام هی أنّ من بین الآیات السبع التی بَینَت خلق السماوات والأرض فی ستة أیّام ، تمّت الإشارة فی أربع آیات منها فقط إلى خلق السماوات والأرض فی ستة أیّام (6) .وفی ثلاث آیات ورد خلق السماوات والأرض وما بینهم (7) .وفی آیة واحدة فقط اُشیر بشکل عام إلى تفصیل هذه المراحل الست ، فمرحلتان لخلق الأرض ، وأربعة مراحل لإیجاد النباتات والحیوانات: ( الَّذِى خَلَقَ الأَرْضَ فِى یَوْمَیْنِ ... وَقَدَّرَ فِیْهَا اَقْواتَها فِى أَرْبَعَةِ اَیَّام ).(فصلت / 9 ـ 10 )
بناءً على ذلک ، فانَّ المراحل الست أعلاه تتعلق بخلق السماوات والأرض وموجوداتهما المتنوعة (8).
وتقول الآیة السابعة من البحث إنّ هذا المعنى مسلمٌ به حتى لدى الوثنیین وهو : إنَّ الله تعالى هو خالقُ السماوات والأرض ، ومسخرُ الشمس والقمر ، وأنّ هؤلاء یفهمون أنَّ هذا العالم الجبار والنظام العجیب لا یمکن أن یکون مِنْ خلقِ الأصنام ، بل إنّ ضمیرهم یحکُمُ بانَّهُ مِنْ خلقِ الله العالمِ القادر: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَیَقُوْلُنَّ اللهُ ) .وعلیه فلیس العلماء والمفکرون وحدهم الذین یصلون إلى معرفة الذات الإلهیّة المقدّسة من خلال التفکر بأسرار الخلق ، وإنّما الوثنیّون الجهلاء کذلک یعرفون بشکل عام الذات المقدّسة من خلال مشاهدة هذا النظام بالرغم من أنّهم یتیهون فی واد من الشرک بسبب الخرافات والجهل المحیط بهم.
ومع أنّ الآیة الثامنة تقصدُ مسألة المعاد والقیامة بدلالةِ الآیات التی تلیها وتقول إنّ القادرَ على خلق السماوات والأرض بهذه العظمة ، قادرٌ على أن یحییَ الموتى ، لأنَّ خلق السماوات والأرض أصعب وأعقد من خلق الإنسان ، لکنها مع ذلک دلیلٌ واضحٌ على مسألة معرفةِ الله أیض ، لأنَّ وجودَ الإنسان بل وحتى عضو واحد من أعضاء جسمه کالعین والاذن ، بل حتى بناء خلیة واحدة من خلایا هذه الأعضاء بکل ما فیها من التعقید والابهام والأسرار والأنظمة یمکن أن یکون من آیات الله تعالى ، بناءً على ذلک فانَّ ( خلق السماء والأرض الذی هو أکبرُ وأعظم من خلق الإنسان أوضحُ برهان على عظمة الله تعالى ) ( لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَکْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ).ومن المؤکد أنّ خلق الإنسان إذا ما قیسَ مع کل جزء من أجزاء هذا العالم فانه یُرجح علیه، إلاّ أنَّه إذا قیس بکل السماوات الواسعة والأرض ، فمن المسلَّم به أنّ السماوات والأرض یرجح خلقُها على خلق الإنسان.
والظریف أنّ القرآن الکریم حینما جاء بهذا التصریح لم یکن للناس حینذاک ولا سیما المتخلّفین فی الحجاز ـ معرفة بعظمة السماوات ، ولعلهم کانوا یظنّون أنّ السماء سقفٌ أزرق اللون قریبٌ منهم ، وقد تمّ تثبیته بواسطة مسامیر فضیة وهی النجوم!
أجَلْ ... إنّنا الیوم ندرک جیداً المفهوم العمیق لهذه الآیة ، لأنَّ العلماء تفحّصوا هذه السماء الواسعة من خلال المراصد الفلکیة العملاقة ، وقد زودونا بأسرار وعجائب مذهلة عن عظمتها والنظام السائد فیه ، ومن أین ندری أنّ ما یشاهدونه الیوم لا یبلغ معشار عظمة هذا العالم ، ولعل هذه الحقیقة تتضح غداً للمل ، لهذا یقول تعالى فی آخر الآیة : ( وَلکِنَّ اکْثَرَ النّاسِ لا یَعْلَمُوْنَ ) (9).وفی الآیة التاسعة تمَّ جمع دورة کاملة من دروس التوحید ومعرفة الله فی استفهام إنکاریٍّ حیث یقول : ( أَفِى اللهِ شَکٌ فَاطِر السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ) .والجدیر بالاهتمام هنا أنّ کلمة «فاطر» تعنی المشَقِق ، وجاء استخدام هذا التعبیر إمّا بسبب تمزیق حجاب العدم والظلمة أثناء خلق السماوات والأرض وإشراق نور الوجود فی خلق السماوات والأرض ، أو إشارةٌ إلى ما یُعرفُ الیوم لدى علماء الفلک حیث إنّ جمیع هذه الأجرام والمنظومات کانت فی الیوم الأول على هیئة مجموعة کبیرة مرتبطة ببعضها، وانفصلت عن المرکز نتیجة لحرکتها حول نفسها وبتأثیر القوة الدافعة لها عن المرکز، والقت بقطع منها إلى الخارج وظهرت المنظومات والمجرّات الثابتة والسّیارة (10) .على أیّة حال ، سواء کان المشرکون هم المخاطَبون فی هذه الآیة أو منکرو وجود الله تعالى ، أو کلاهم ، فانّه یستفاد من هذه الآیة الکریمة هذه الحقیقة ، وهی أنّ الَّتمعنَ فی خلق السماوات والأرض یکفی لأنّ یقتلع کُلُّ نوع من أنواع الشک والریب فی وجود الله ووحدانیته وقدرته من قلب الإنسان .
ویشیر فی الآیة العاشرة إلى خاصّیة اُخرى من خصائص السماء والأرض إذ یقول تعالى : ( وَالسَّمَاءَ بَنَیْناهَا بِأَیْیْد ) .فمن المسلَّم بهِ أنّ خلقَ مثل هذه العوالم الجبّارة یستلزم قدرةً مناسبةً له ، وهی قدرة الباری عزّ وجّل وحده .ویضیف فیما بعد ( وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) .وبالرغم من أنَّ بعض المفسّرین اعتبروا ذلک بمعنى توسعةِ الرزق عن طریق هطول المطر وغیره (11) لکن یبدو أنّ للآیة معان بالغة الأهمیة والدقّة، حیث اتّضح ذلک لعلماء عصرنا الحاضر، وقد اُمیط اللثام عن معجزة من المعجزات العلمیة للقرآن، وهی أنّ العالم فی حال اتساع وبصورة مستمرة، وأنّ النجوم والمجرات والأجرام تبتعد عن بعضها بشکل سریع.
یقول أحد العلماء المعروفین ویُدعى ( جورج غاموق ) فی کتابه ( بدایة ونهایة العالم ) : « یمُّر فضاءُ الکون الذی یتألف من ملیارات المجرّات بحالة من الامتداد السریع ، والحقیقة هی أنّ عالَمَنا لیس ثابتاً بل إنَّ اتساعَهُ مسلَّمٌ به ، والوقوف على کون عالمنا یمرُّ بحالة من الاتساعِ یهیء لنا المفتاح الحقیقی لکنوز أسرار النظریة الکونیة ، فلو أنّ العالَمَ یمُّر الیومَ بحالة من الاتساع والامتداد فهذا یعنی أنّه کان یمرُ بحالة من الانکماش الشدید فی عابر الازمان » (12) .وممّا یبعث على الدهشةِ أنَّ هذا التوسعَ یسیرُ سریعاً بالقَدرِ الذی یقول عنه ( فورد هوفل ) فی کتاب ( حدود النجوم ) : « لقد تم قیاس اقصى سرعة لتباعد الکرات حتى الآن بما یقارب 66 ألف کیلو متر فی الثانیة ، وتُدَللُ الصور الملتقطة عن السماء على هذا الاکتشاف المهم بوضوح ، حیث إنَّ الفاصلة بین المجرّات النائیة تتضاعف بسرعة أکثر من المجرّات القریبة !» (13) .فأیُّ قوة عظیمة تکمنُ وراء هذه الأجرام والمنظومات الجبّارة حیث تُبعدها عن مرکز العالم بهذه السرعة النادرة من دون أن تتلاشى على اثر هذه الحرکة ؟!ثم یشیر إلى الأرض فیقول : ( وَالاَرْضَ فَرَشنَاهَا فَنِعْمَ المَاهِدُونَ ) .فالتعبیر بـ «الفرش» من ناحیة ، و«الماهد» من مادة ( مهد ) من ناحیة اُخرى ، إشارةٌ إلى التغییرات الکثیرة التی حصلت منذ بدایة تکوین الأرض ، وتهیئتها لحیاة الإنسان ، وجعلها کالمهد أو فراش الراحة .کل هذه دلائل على ذلک العلم والقدرة الأزلیة .
ونقرأ فی الآیة الحادیة عشرة تعبیراً جدیداً حول خلق السماء إذ یقول : ( وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظً ) .
فهل هناک سماءٌ فی العالم على هیئة سقف یُحفظُ من نفوذ الکائنات الخارجیة ؟ نعم .. فالسماء هنا یمکن أن تکون إشارة إلى الفضاء الذی یحیط بالأرض ویبلغُ سمکُهُ مئات الکیلو مترات ، فهذه الطبقة التی تتألف من الهواء المضغوط اللطیف وبقیة الغازات المحیطة بجوانب الکرة الأرضیة على هیئة سقف دائری ، قویةٌ بالقدر الذی یصفها بعض العلماء بأنَّ لها مقاومةً بقدر سقف فولاذیٍّ بسُمکِ عشرة أمتار ، وهی لا تمنع نفوذ الاشعاعات المدمرة فحسب ، بل تمنع سقوط الصخور الفضائیة التی تنجذب نحو الأرض باستمرار ، لاصطدامها بهذه الطبقة الجویة بسرعتها الخارقة ، فتکون مانعاً لحرکة تلک الصخور ، کما ویؤدّی هذا الاصطدام إلى احتراق تلک الصخور وانصهاره .فلو لم تکن هذه الطبقة الجوّیة العظیمة لأصبح أهلُ الأرض عُرضةً للملایین من قذائف الصخور الفضائیة الصغیرة والکبیرة لیلَ نهار ، فماذا سیحصل ؟ وهل یکون هناک وجودٌ للاستقرار فی « مهد الأرض » ؟ وهل سیکون اسمُ المهد والمرقدِ لائقاً به ؟ .لا ضیر أن تقرأ هذا الکلام الوارد على لسان عالم معروف یُدعى ( فرانک آلن ) حیث یقول فی کتابه ( النجوم للجمیع ) : « إنَّ الجوَّ الذی تألَّفَ من الغازات التی تحفظ الحیاة على سطح الأرض له من المقدار والسمک « بحدود 800 کم » بحیث یستطیع أن یکون کالدرع للأرض یصونها من شر اصطدام 20 ملیون صخرة فضائیة مدمرة تبلغ سرعته 50 کیلو متراً فی الثانیة یومی ! » (14) .صحیحٌ أنّ وزنَ بعض هذه الشهب التی تتقاطر نحو الأرض یعادل10001من الغرام إلاّ
أنَّ القوة الناتجة عن سرعتها تعادل قوة انطلاق ذرات القنبلة النوویة ! .. وقد یبلغ حجمُ ووزن بعض هذه الشُهُب مقداراً کبیراً بحیث تجتاز هذه الطبقة وتصیب الأرض ، ومن الشهب التی اجتازت الغلاف الغازی ووصلت إلى الأرض شهاب « سیبری » العظیم المعروف الذی أصاب الأرض عام 1908 م وکانَ قطرُهُ بقَدْر کبیرحیث احتلَ ( 40 کم ) تقریباً من الأرض ، وأدّى إلى حدوث اضرار جسیمة « وکأنَّ الله تعالى یُنذُرنا بهذا الاُسلوب .. لنتصور حالنا فیما لو تعرضنا لقصف الصخور السماویة یومی » .فلو کان الغلاف الجوی حولَ الأرض بشکل أرقُّ مّما هو علیه « لأصابت الأرضَ یومیاً عدةُ ملایین من الأجرام السماویة والشُهب الثابتة ، کما یقول ( غرسی مورسِن ) مؤلف کتاب ( سرُّ الخَلْق ) : « ولم تَعُدِ الأرض صالحةً للحیاة » (15) .ولا ینبغی طبعاً نسیانُ الآثار المدمِّرة الناتجة عن اصطدام الأشعة فوق البنفسجیة بالأرض فی حالة عدم وجود هذا الغلاف فهی أکثر بکثیر من أخطار آثار هذه الصخور ، ولعلَّ هذا الأمر کان السبب فی أن یقول الباری تعالى فی نهایة الآیة : ( وَهُمْ عَنْ آیَاتِهَا مُعْرِضوُنَ ) .
ویشیر فی الآیة الثانیة عشرة والأخیرة إلى خاصِیة اُخرى من خصائص السماوات ، وهی من المعجزات العلمیة للقرآن الکریم إذ یقول : ( اللهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَواتِ بِغَیْرِ عَمَد تَرَوْنَهَ ) .ویبرهنُ هذا التعبیر على أنَّ للسمَوات عموداً إلاّ أنّهُ غیرُ قابل للرؤیةِ ، فهو عمود غیرُ مرئیٍّ ، فایُّ شیء یمکنُ أنْ یکونَ هذا العمود سوى توازن قانون « الجذب » و« الدفع » ، أی « القوة الدافعة المرکزیة » ؟ أجَلْ إنّ تعادل الجذب والدفع هذا هو عمود قویٌ بحیث یرفع جمیعَ کُرات المنظومة الشمسیة وبقیة المنظومات فی مداراتها بإحکام ، مع أنّه غیرُ مرئیٍّ ، کما ویمنع تساقطها على بعضه ، أو الابتعاد عن بعضها فیختَلُّ نظامُه .وینبغی الانتباه إلى أنّ «عَمَدْ» ( على وزن صَمَدْ ) اسمُ جمع من مادة « عمود » ، ولو أراد القرآن أن یقول : « إنَّ السماءَ مرفوعة بلا عمد » ، لکان یکفی أن یقول : ( رَفَعَ السَّمَواتِ بِغَیرِ عَمَد ) ، إلاّ أنّ اضافة عبارة ( تَرَوْنَه )یُدلُ على أنّ المقصود هو نفی الاعمدة المرئیة ، ویستلزمُ ذلک إثبات العمود اللامرئی .
لذلک نقرأ فی الحدیث المشهور عن الإمام الرض (علیه السلام) حیث کان یتحدث إلى بعض الجهلاء الذین کانوا یقولون : إنَّ السماء بلا عمود ، فقال الإمام (علیه السلام) : « سبحان الله ألیسَ اللهُ یقول بغیر عَمَد تَرَونَه » ، ویجیب ذلک الشخص بنعم ، فیقول الإمام (علیه السلام) مباشرة : « ثَمَّ عَمدٌ ولکن لا تَرَوْنَه » (16) .وقد رُوی هذا المعنى بتعبیر « عمود من نور » فی حدیث شیِّق لأمیر المؤمنین (علیه السلام)حیث یقول : « هذه النجوم التی فی السماء مدائنُ مثل المدائن التی فی الأرض مربوطةٌ کلُّ مدینة إلى عمود من نور » (17) .والذى یثیر الانتباه هنا هو بالرغم من أنّ قانون الجذب والدفع لم یکن مذکوراً فی تفاسیر القدماء والسالفین ، فانَّ منهم من فسَّر الآیة کما ذکرنا آنف ، حیث قال بوجود عمود غیر منظور للسماء ، بالرغم من أنَّ البعض عبَّر عن هذا العمود غیر المنظور بقدرةِ الله (18).على أیّة حال ، فهذه احدى آیات الله العظیمة ، حیث رفع السموات بهذه الأعمدة القویة غیر المنظورة ، والأنظمة المهیمنة على قانون الجذب والدفع، بحیث لو حَصَلَ أقلُّ تغییر فی هذه المعادلة ، فسوف یختلُ توازنها أو تتصادم فیما بینها بشدة وتختفی أو تبتعد نهائیاً وینفصم الارتباط بینه .
1. تفسیر روح الجنان; ج 3، ص 384 ; تفسیر الکبیر 9 ص 134 ; و تفسیر روح المعانی، ج 1404 ; تفسیر القرطبی ، ج 3، ص 1552 وتفاسیر اُخرى .
2. الفرقان ، 59 ; السجدة ، 4 ; ق ، 38 ; الحدید ، 4 ; الاعراف ، 54 ; هود ، 7 .
3. المادیة التاریخیة، ص 87 .
4. نهج البلاغة، الرسالة 72 .
5. ذُکِر أیضاً فی کتاب القاموس المقدَّس الذی هو شرحٌ لمفاهیم التوراة والانجیل ، شرحٌ فیما یخص خلق السماوات والأرض فی ستة أیّام حیث یشبه ما ورد أعلاه فی بعض الجوانب بالرغم من اختلاطه ببعض الخرافات کاستراحةِ الله فی الیوم السابع ( القاموس المقدس، ص 84 کلمة الخلق ) .
6. الحدید، 4 ; الاعراف،54 ; یونس، 3; وهود، 7 .
7. الفرقان، 59 ; السجدة، 4 ; ق، 38 .
8. ومن للتوضیح أکثَر فی هذا المجال یراجع التفسیر الأَمثل ذیل الآیات 54 الاعراف ; و 10 فصلت ) .
9. ما معنى « لا یعلمون » هن ؟ هناک احتمالات مختلفة : أولها هو : أنّ الناس یجهلون عظمتها قیاساً مع الإنسان ، والآخر أنّهم یجهلون القدرة الإلهیّة اللامتناهیة ، والثالث ، أنّهم یجهلون قدرته على مسألة المعاد ، أو یعلمون ، وحیث إنّهم لا یفصحون عن علمهم هذ ، فهم فی حکم الجهلاء ( ولکن لا یُستبعد أن تجتمع کل المعانی الثلاثة الاولى فی الآیة وکما قالوا بأنّ حذف المتعلق دلیل على العموم ) .
10. یقول الراغب فی المفردات: « فَطْر » على وزن «سَتْر » أی الشَّقُ طولی ، ثم جاءت بمعنى الایجاد والإبداع ، و« فِطْر » ( على وزن مِتْر ) تعنی الافطار وترک الصیام ، وکأنَّ الصیام ینفطر ، ( والفطرة تعنی الخلقة وهی مأخوذة من هذه المادة أیض ) .
11. وقد فسَّر بعض المفسرین لفظة ( موسعون ) بمعنى ( قادرون ) أیض ، لأنّه مفردة ( الوسع ) تأتی أحیاناً بمعنى « القدرة » ، أمّا مفهوم « التوسیع » فهو أوضح .
12. بدایة ونهایة العالم ، ص 77 ( مع الاختصار ) .
13. حدود النجوم، ص 338 .
14. النجوم للجمیع، ص 74 .
15. سرُ خلق الإنسان، ص 34 .
16. تفسیر البرهان، ج 2، ص 278 .
17. بحار الأنوار، ج 55، ص 91; تفسیر القرطبی ج 9 ص 279 .
18. تفسیر مجمع البیان، ج 5، ص 247 ; تفسیر روح المعانی، ج 13، ص 78 ; تفسیر الکبیر، ج 18 ص 232 ; و تفسیر القرطبی، ج 5 ص 3508 .
