إنّ الآیة الاُولى من جملة الآیات الکثیرة فی سورة الروم التی أشارت لآیات الآفاق والأنفس، وعدت بعضاً من آیات الله فی العالم الأکبر (الکون) وبعضاً من آیات العالم الأصغر «الإنسان» فاشارت الآیة إلى العالم الأکبر من جهة (وَمِنْ آیَاتِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ وَالاَْرْضِ)، ثم أشارت إلى بعض دقائق خلق الإنسان من جهة اُخرى (وَاخْتِلاَفِ أَلْسِنَتِکُمْ وَأَلْوَانِکُمْ).
الاختلاف لیس فی الألسنة والألوان الظاهرة فحسب، بل فی السنة الفکر وألوان الأذواق والبواطن، فانّها مختلفة إلى درجة بحیث لا یمکن العثور على شخصین متشابهین بالکامل، وهذا الاختلاف جار حتى بالنسبة للتوأم.
إنّ هذا الاختلاف یسبب ـ من جهة ـ التعارف والاختلاف بین الناس، لأنّه إذا لم یکن تمایز بین الناس اختل النظام الاجتماعی للحیاة، کما هو الحال بالنسبة للتوأم فالذی یعاشرهم کثیراً یقع فی اخطاء تجاههم، فقد یقدم أحدهم من السفر ویقوم صدیقهم بزیارة الآخر الذی لم یسافر، أو یتمرض احدهم فیزور الآخر وهو صاح، أو یعطی الابوان الدواء للسلیم لعدم التمییز بینهما.
تصوروا ما الذی یحصل لو کان الناس جمیعاً متشابهین من جمیع الجهات؟!! ومن جهة اُخرى، فإنّ هذا التنوع والاختلاف یسبب انخراط کل مجموعة من الناس فی جانب من جوانب الحیاة وبهذا الاختلاف فی الأذواق والقابلیات تسدّ جمیع احتیاجات البشر الاجتماعیة فلا یحصل خللٌ فی هذا المجال، ألم تکن هذه الدقّة العجیبة فی هذا النظام من آیات الله؟!
والجدیر بالذکر أنّ المفسرین ذکروا احتمالات عدیدة فی تفسیر (اختلاف الألسنة) فتارة قالوا: إنّ المراد منه هو الاختلاف فی اللغة، حیث نعلم أنّ اللغات الموجودة حالیاً أکثر من ألف لغة، وهذا التنوع الذی لا نرید الخوض فی تفصیلاته فعلا، جید لتتعرف الأقوام المختلفة على بعضها البعض.
وتارة قالوا : إنّ المراد هو اللـهجات وکیفیة حدیث الأشخـاص التی تختلف من شخص إلى آخر اختلافاً کبیراً، فلکل منطق وأسلوب فی البیان یعبّر عن شخصیته.
وتارة قالوا: إنّ المـراد هو الأصوات أو ما یصطلح علیه بـ «الذبذبات الصوتیة» التی تختلف عند الأشخاص اختلافاً فاحشاً، ولهذا فإنّ الأعمى یمیز الأشخاص من أصواتهم، کما أنّ البصیر یمیزهم من وجوههم.
ومن هنا یتضح أنّ اقتران اختلاف الألسنة والألوان بخلق السموات والأرض فی الآیة هو لأجل الإشارة إلى أنّ جمیع موجودات العالم ـ صغیرها وکبیرها، وأبسطها وأعقدها ـ بحسب الظاهر ـ تحکمها قوانین وأنظمة دقیقة، و.هی آیات لعلم الله وقدرته وینبغی الإشارة إلى أنّ الآیة صرحت فی النهایة: (اِنَّ فِى ذَلِکَ لاَیَات لِلْعَالِمِینَ) نعم إنّ العلماء هم الذین یدرسون أسرار الکون ویتفحصونها واحدة تلو الاُخرى، وهم الذین تکون معرفتهم السابقة أرضیة خصبة لمعارفهم الأکثر والأدقّ.
وقد تحدثت الآیة الثانیة عن مجامیع صغیرة مفسدة تعیش فی «وادی القرى» بین قوم صالح (على ما یقوله المفسرون)، وکان عددهم تسعة رهط (أی مجموعات صغیرة)، وکانوا یفسدون فی الأرض دائماً کما یصفهم القرآن الکریم: (وَکَانَ فِى الْمَدِیْنَةِ تِسْعَةُ رَهْط یُفْسِدُونَ فِى الاَْرْضِ).(النّمل / 48)
أمهلهم الله کثیراً کفرصة للتوبة والرجوع إلى أنفسهم، لکن ما زادهم الأمهال إلاّ غروراً، وکان نهایة أمرهم أن أنزل اللهُ علیهم صاعقة من السماء، وزلزلة من الأرض ختمت حیاتهم.
یقول القرآن فیهم: (فَتِلْکَ بُیُوتُهُمْ خَاوِیةً بِمَا ظَلَمُوا) أی خالیة منهم بسبب ظلمهم وطغیانهم.
ثم یضیف: (إِنَّ فِى ذَلِکَ لاَیَةً لِّقَوْم یَعْلَمُونَ).
إنّ عبارة: (بِمَا ظَلَمُوا) تدل على أنّ الظلم هو السبب فی دمـار البیوت وخرابها، وقد نُقِل عن ابن عباس أنّه قال: إنّی وجدت هذه الحقیقة فی کتاب الله وهی: إنّ الظلم یهدم البیوت، ثم تلا الآیة المذکورة.
وقد جاء فی التوراة: «یابن آدم لا تظلم فیُهدم بیتک»(1).
وینبغی الالتفات هنا إلى أنّ مفردة «خاویة» تعنی ـ فی الأصل ـ خالیة، إلاّ أنّ کثیراً من المفسرین فسرها بالخربة، وهذا قد یکون لأجل أنّ البیت إذا خلى وهُجِر خرِبَ وانهدم(2).