فی الآیة الاُولى بعد أن أقسم الله بالنفس وبالذی سوّاها وما فیها من قابلیات، أشار إلى المصدر المُلْهِم للمعرفة وهو «الوجدان الأخلاقی»، وقال: إنّ الله ألهم الإنسان المعرفة فی مجال التقوى والفجور.
وقد جاء فی آیة اُخرى ما یماثل مفاد هذه الآیة، فبعد إشارته إلى خلق الإنسان قال: وهدیناه النجدین.
وینبغی الالتفات هنا إلى أن «نجد» ـ فی الأصل ـ المکان المرتفع ویقابله «تَهَامة» أی الأرض المنخفضة، إلاّ أنّ النجد هنا ـ بقرینة ما قبل وما بعد الآیة، وبقرینة بعض الروایات التی فسرت النجد ـ کنایة عن الخیر والشر وعوامل السعادة والشقاء(1).
کما أنّ الآیة: (إِنَّا هَدَیْنَاهُ السَّبِیلَ إِمَّا شَاکِرَاً وإِمَّا کَفُوراً). (الإنسان / 3)
قد تشیر إلى نفس المعنى، أو على الأقل تندرج «الهدایة الفطریة» فی المفهوم العام للهدایة التی جاءت فی هذه الآیة.
والآیة الثانیة ناظرة إلى تحطیم الاصنام من قبل بطل التوحید ابراهیم الخلیل(علیه السلام): ومحاکمة عبدة الأصنام له فی بابل، فعندما سُئِلَ: (أَأَنْتَ فَعلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا یَا إِبْراهِیمُ)؟(الانبیاء / 62)
اجابهم (علیه السلام):(بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُم هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کَانُوا یَنْطِقُونْ). (الانبیاء / 63)
ثم قالت الآیة: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّکُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أی ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم وربّهم وخالقهم الذی یغدق علیهم النعم.
یعتقد بعض المفسرین: أنّ عبارة: (فَرَجَعُوا اِلَى اِنْفُسِهِمْ) تعنی لوم احدهم الآخر، إلاّ أنّ هذا خلاف ظاهر الآیة، فالتفسیر الأول أصح.
نعم، إنّه الضمیر الذی یجعل عبدة الأصنام المغرورین یلومون أنفسهم ویوبّخونها.
إنّ التعبیر بـ (النَّفْس اللَّوّامَة) فی الآیة الشریفة: (وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ). (القیامة / 2) خاصة وأنّ الله قرنها بیوم القیامة، إشارة واضحة إلى هذه المحکمة الباطنیة والوجدان الفطری.
والآیة الثالثة تشیر إلى أمر المشرکین، حیث یعرضون عن اتباع آیات الله عندما یُدعون إلیها ویصرون على اتباع ما کان علیه آباؤهم، فیقول الله فی هذا المجال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللهُ)، وبالرغم من ذلک لم یخضعوا للهِ تعالى، بل لأصنامهم التی صنعوها بأیدیهم لجهلهم: (الْحَمْدُ للهِ بَلْ اَکْثَرُهُمْ لاَ یَعْلَمُونَ).(لقمان /25)
وجوابهم على هذا السؤال عن خلق السموات والأرض، یمکن أن یکون نابعاً عن «الفطرة»، ویوضّح حقیقة أنّ الأنوار الإلهیّة متأصّلة فی الإنسان منذ تکوینه فطریاً ولکن الناس غافلون عن هذا الحکم الفطری، فیذهبون عنهُ شططاً.
وتشیر الآیة الرابعة إلى نفس المفاد الذی جاء فی الآیة الثالثة، فقد وضّحت التوحید الفطری الذی یتجلى فی باطن الإنسان عندما یمرّ بالأزمات والشدائد، ومثال ذلک أنّ الناس عند رکوبهم السفینة ومواجهتهم الأمواج المتلاطمة والزوابع والعواصف یذکرون الله، لأنّهم لا یجدون أحداً یستطیع انقاذهم آنذاک من الشدائد غیر الله.
فعندما تُرفع ستائر التقالید الخرافیة والأوهام والتعالیم الخاطئة وتتجلى فطرة البحث عن الله، یذکرونه ویدعونه بإخلاص کامل.
وما أن یهدأ البحر أو یصلوا إلى الساحل، حتى تساورهم الأفکار الملوثة بالشرک مرّة اُخرى وتستعید الأصنام وجودها فی قلوبهم وتسدل ستاراً على فطرتهم مرّة ثانیة؟
والآیة الخامسة، بعد ما عَدَّتْ التوحید دین وملة إبراهیم وانبیاء عظام آخرین کإسماعیل وإسحاق ویعقوب وموسى وعیسى(علیهم السلام) قالت: (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ).
إنَّ النصارى الذین یعتقدون بالتثلیث، ویغسلون أولادهم بغسل التعمید، ویضیفون ـ احیاناً ـ مادة صفراء إلى الماء الذی یُغسل به، ویقرنون عملهم هذا باسم «الأب» و«الابن» و«روح القدس» یعتبرون هذا العمل مطهراً لهم من الذنوب التی ورثوها من آدم(علیه السلام)(2).
إنَّ القرآن أبطل هذه الأفکار جمیعها وصرح: إنّ صبغة الله أحسن من هذه الصِبَغ الخرافیة، فسلموا لهذه الصبغة لتطهر أرواحکم من کل شرک وإثم وعبادة للأصنام.
وقد جاء فی الروایات ـ کما قلنا سابقاً ـ أنّ المراد من الصبغة هو الإسلام والولایة(3)، وهذا تأکید على وجود إلهامات فطریة فی ذات الإنسان.
والآیة السادسة والسابعة تحدثنا بعد الإشارة إلى خلق الإنسان عن تعلیمه البیان وما لم یعلم.
(اَلَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ).(العلق / 4)
وعلى هذا فهو معلم البیان کما هو معلم بالقلم، وهو معلم الإنسان ما لم یعلم، وهذه التعالیم قد تکون تلمیحاً إلى التعالیم الفطریة المودعة فی باطن الإنسان بشکل معلومات ملخصة وأولیة، وقد تکون تلمیحاً للوسائل والأسباب والمقدمات التی جعلها الله فی الإنسان، والتی تمکنه من اختراع اللغة والخط واکتشاف واقعیات الکون الاُخرى.
وعلى المعنى الأول تکون الآیات شاهداً على بحثنا.
أمّا الآیة الثامنة فی البحث فقد تحدثت عن دین الفطرة وأمرت الرسول بأن: (أَقِمْ وَجْهَکَ لِلدِّینِ حِنِیفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِیلَ لِخَلْقِ الله).
الجمیل هنا أن القرآن لم یذکر کون معرفة الله فطریة فحسب، بل إنّ الدین بجمیع أبعاده وجوانبه فطری.
والأمر کذلک بالضرورة، وذلک لتنسیق الموجود بین جهاز «التکوین» وجهاز «التشریع» أی أنّ ما جاء مفصلا فی عالم التشریع، جاء بصورة مجملة فی عالم التکوین، وعندما یتفق نداء الفطرة مع نداء الأنبیاء والشریعة، فإنّ هذا الاتفاق یجعل الإنسان فی طریق الهدى.
وسنخوض تفصیلا فی هذا الموضوع عند بحثنا فی التوحید الفطری فی المجلد الثانی إن شاء الله.