إنَّ أول آیة تناولناها بالبحث هنا تؤکد بان الهدف من نزول الآیات هو العقل والتفکیر لدى الإنسان، وتکشف عن هذه الحقیقة بالتعبیر بـ (لعلَّ) التی تفید بیان الهدف فی موارد کهذا المورد.
وقد أکدت بعض الآیات على هذا الموضوع وذهبت إلى ابعد من ذلک حیث وبّخت الناس على عدم تفکرهم وتعقلهم وآخذتهم بعبارة کهذه: (أَفَلاَ تَْعقِلُونَ)(1).
وقد تکرر هذا المضمون بصیغة جملة شرطیة، حیث یقول تعالى: (قَدْ بَیَّنَا لَکُمُ الاْیَاتِ إِنْ کُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).(آل عمران / 118)
إنّ هذه التعابیر المختلفة: (لَعَلَّکُمْ تَعْقِلُونَ، أَفَلا تَعْقِلُونَ، إنْ کُنْتُم تَعْقِلُونَ)تکشف بوضوح عن هذه الحقیقة وهی: إنّ الله وهب الإنسان العقل کی یستعین بقدرته على إدراک الحقائق وفهمها، ویستحق اللوم والتوبیخ إذا ترک الانتفاع بهذه القدرة.
والآیة الثانیة ومن خلال اشارتها إلى آیات الله فی خلق السموات والأرض واختلاف اللیل والنهار صرحت: إنّ إدراک هذه الآیات أمر یسیر لأُولی الألباب.
وکما أشرنا سابقاً، فإنّ (اُولی الألباب) هم العلماء الذین خلصت عقولهم من جمیع ترسبات الأوهام، فهم یدرکون وقائع نظام الخلق، ویرون جمال الخالق من خلالِ المخلوقات، وهذا یکشف عن أهمیّة العقل کطریق لمعرفة الحق جل وعلا.
أمّا الآیة الثالثة، فبعد أن أشارت إلى خروج الإنسان من بطن اُمّه لا یعلم شیئاً شرحت وسائل المعرفة، فبدأت بحاسة «السمع» الذی تُعرف علومه بـ «العلوم النقلیة»، من خلال الاصغاء إلى أقوال الآخرین، ثم ذکرت «البصر» الذی تمیز به الأشیاء بعد مشاهدتها ثم ختمت بـ «الفؤاد» الذی تُدرک به الحقائق غیر المحسوسة، وقد قلنا سابقاً: إنّ الفؤاد هو العقل عند نضوجه، فهو أعلى درجة من العقل.
والآیة الرابعة بعد إشارتها إلى الأقوام السالفة المقتدرة والتی أُبیدت واُهلکت بسبب، وقد أُهلکوا لطغیانهم وفسادهم، ولم یستطیعوا الفرار والنجاة، قالت: (إنَّ فی ذلِکَ (فی سیادتهم ثم إبادتهم) لَذِکْرِى لِمَنْ کَانَ لَهُ قَلْبٌ (أی عقل) أَوْ اَلْقَى السَّمْعَ (أی یصغی للنصائح))!
والآیة الخامسة بعد الإشارة إلى إحیاء الأرض المیتة وانبات الزرع فیها الذی یمثل غذاء الإنسان ودوابّه، صرحت: إنّ هذه الاُمور آیات یدرکها أصحاب النهى.
وکنّا قد أشرنا إلى أنَّ النهى هو العقل بما هو ناه عن فعل الأفعال القبیحة.
أمّا الآیة السادسة فبعد أن أشارت إلى الآیات العظیمة والبیّنة للقرآن، قالت: إنّ هذه الآیات فی صدور (قلوب) الذین أُوتوا العلم، وکما بیّنا من قبل فانَّ الصدر یعنی الجزء المقدم والأعلى من کل شیء، وهذا یبیّن أنّ العقل الذی یعتبر من المصادر المهمّة للمعرفة، یشکل أشرف جزء فی الإنسان.
والآیة السابعة بعد أن ذکرت قصة خلق آدم (علیه السلام) خاطبت الملائکة بالقول: (فَاِذَا سَوَّیْتُهُ وَنَفَخْتُ فِیهِ مِنْ رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدیِنَ).(29 / حجر) و (ص / 72)
وهذه (الروح الإلهیّة) هی (جوهر العقل)، وقد اضیفت إلى الله لأهمیتها (ویقال لهذه الإضافة اضافة تشریفیة) لأنّ الله لا روح له ولا جسم، ولأجل هذه الروح الإلهیّة سجد جمیع الملائکة المقربین لآدم(علیه السلام)، وإلاّ فالطین والتراب لا قیمة لهما، وهذا تأکید شدید على أهمیّة وقیمة العقل.
والآیة الثامنة تشیر إلى خلق (النفس) أی الروح والعقل، وتُقسم بخالق النفس، ثم تضیف: إنّ الله ألهم وکشف للنفس طریقی الفجور والتقوى بعد أن أوضح لها هذین الطرِیقَیْن، وهذا تلمیح جمیل إلى الإدراکات الفطریة التی جُبِلَ علیها الإنسان منذ أن بدأ حیاته.
کان هذا مجموع العناوین والمفردات الثمانیة التی استعملت فی القرآن وأرید بها الإشارة فی کل مفردة منها إلى جانب وبُعد من جوانب وأبعاد جوهر العقل، وقد بینت هذه العناوین الأبعاد المختلفة لهذا المصدر المهم للمعرفة.
إنَّ ما ذکر سلفاً کان بحثاً فی جوهر العقل، أمّا بالنسبة لنشاط ووظیفة العقل، فهنالک تعابیر عدیدة فی القرآن کانت قد اختصت بهذا الموضوع وکلٌّ منها تبیّن جانباً من جوانب وأبعاد نشاط العقل، وهی کالتالی:
الآیة التاسعة بحثت التذکر واعتبرته الهدف من بیان آیات الله، والتذکّر هو الحفظ والخطور فی الذهن وهو أحد أهم وظائف العقل، وإذا لم یکن التذکر حاصلا عند الإنسان ما استفاد الإنسان من علومه شیئاً.
وفی هذا المجال نرى تعبیرات مختلفة فی القرآن، فقد یذکر الموضوع الاستعانة بالأداة (لعل) التی تفید بیان الهدف فی موارد کهذا المورد، وتارةً اُخرى یعبر عن الموضوع باسلوب التوبیخ واللوم مثل (أَفَلاَ تَتَذَکَّرُونَ)(2).
وقد یبین الموضوع باسلوب التوبیخ لأولئک الذین لا ینتفعون بالعقل والفکر، فلا یحفظون الحقائق ولا یتذکرونها، کما هو الأمر فی: (قَلِیلا مَا تَذَکَّرُون). (الاعراف / 3) و (النمل / 62).
وقد تحدثت الآیة العاشرة عن (التفکر) بعد استفهام استنکاری: (قُلْ هَلْ یَسْتَوِى الأَعْمَىْ وَالْبَصِیر)؟ وقد وجهت اللوم بقولها: (أفلا تتفکرون)، وکما أشرنا سابقاً إلى أنَّ التفکیر یعنی تحلیل وتجزئة المسائل للوصول إلى حقائقها، وهو سبیل للفهم الأکثر والأفضل.
وقد تنوّعت تعبیرات القرآن فی هذا المجال، فتارةٌ یکون الاُسلوب هکذا (لَعَلَّکُمْ تَتَفکَّرُون). (البقرة / 219)
وتارة یکون: (لِقَوْم یَتَفَکَّرُون). (یونس / 24)، و (الرعد / 3)، و (النحل / 11)
وتارة اُخرى یکون: (أَوَلَمْ یَتَفَکَّرُوا فی أَنْفُسِهِمْ). (الروم / 8)
وتحدثت الآیة الحادیة عشرة عن «الفقه» الذی یعنی الفهم العمیق، حیث قالت: «انظر کیف نصرّف الآیات» بأنواع من البینات (لَعَلَّهُم یَفْقَهُونَ) فقهاً عمیقاً.
وقد جاءت العبارة هنا بصیغة: (لَعَلَّهُم یَفقهُونَ).(الانعام / 65)
کما قد جاءت فی مکان آخر بصیغة: (لِقَوْم یَفْقَهُونَ). (الأنعام / 98)
وفی آیة اُخرى باسلوب: (لَوْ کَانُوا یَفْقَهُونَ). (التوبة / 81)
وفی اُخرى: (بَلْ کَانُوا لاَ یَفْقَهُونَ الاَّ قَلیلاً). (الفتح /15)
وکلها تبین الأهمیّة القصوى للفهم والإدراک العقلی.
وکما قلنا سابقاً، فإنّ کلمة «الفقه» تعنی إدراک الاُمور الخفیة بالاستعانة بمشاهدة الاُمور الجلیة، وهذا الإدراک هو أحد أبعاد الإدراک العقلی.
وتحدثت الآیة الثانیة عشرة عن «الشعور»، فبعد أن نهت المؤمنین عن نعت الشهداء بالأموات قالت: إنّهم أحیاء ولکن لا تشعرون أی لا تدرکون.
وقد یراد بالشعور هنا معنى الاحساس الظاهری، أو الاحساس الباطنی، وقد استعمل بکلا المعنیین فی القرآن المجید.
وقد ذمّ القرآن فی موارد مختلفة، أولئک الذین لا یشعرون ولا یستخدمون شعورهم(3).
وقد تحدثت الآیة الثالثة عشرة عن «البصیرة» بعد ما أشارت إلى المتقین، حیث قالت: إنَّ المتقین إذا ما ابتلوا بوساوس الشیطان تذکروا الله وأبصروا وادرکوا الحقیقة فنجوا من شباک الشیاطین.
إنّ «البصیرة» و«الأبصار» هو الرؤیة وقد تتم الرؤیة بواسطة العین الظاهرة فیکون بصراً حسیاً، وقد تتم بواسطة العین الباطنیة أی العقل فذلک «الإدراک العقلی»، والمراد من البصیرة فی هذه الآیة هو المعنى الثانی.
إنّ الإنسان على نفسه بصیراً: (بَلِ الاِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِیرَةٌ).(القیامه / 14)
والرسول وأتباعه على بصیرة فیما یدعون إلیه: (قُلْ هَذِهِ سَبِیِلى أَدْعُو اِلَى اللهِ عَلَى بَصِیرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى). (یوسف / 108)
وقد استعملت البصیرة فی جمیع هذه الموارد بمعنى المعرفة الحاصلة عن طریق العقل قطعاً.
وقد تحدثت الآیة الرابعة عشرة والأخیرة عن «الدرایة» التی تعنی الذکاء والخبرة والاحاطة بالمسائل الخفیة أو غیر المحسوسة، حیث قالت: (وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَکْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْض تَمُوتُ).(لقمان / 34)
وقد استعملت الدرایة فی القرآن بصیغ السلب دائماً، ویفیدنا فی هذا أنّ الدرایة مرحلة عمیقة من الفهم والإدراک لا تحصل لِکلِّ إنسان.
نستنتج من الآیات السابقة النتائج الآتیة:
1 ـ إنَّ القرآن یعتبر العقل من المصادر الأصلیة للعلم والمعرفة، وقد أولاه أهمیّة قصوى.
2 ـ القرآن یدعو الجمیع للتعقل والتفکّر فی جمیع الاُمور.
3 ـ التفت القرآن التفاتاً خاصاً إلى ماهیّة الروح الإنسانیة وأبعادها المختلفة، وأکّد على کل من هذه الأبعاد.
4 ـ عبر القرآن عن نشاطات الروح فی مجال إدراک الواقعیات تعبیرات مختلفة، وقد استخدم واستفاد من کل تعبیر فی محله.
إلاّ أنّ القرآن ذکر موانع عدیدة تحول دون الإدراک الصحیح للعقل، سنبحثها فی فصل (حجب المعرفة) إن شاء الله.