هناک اختلاف کبیر فی وجهات نظر الفلاسفة فیما یخص قضیة اطّلاعنا على العالم الذی یحیط بنا وما هی المراحل التی نطویها للوصول إلى هذه المعرفة؟ ومن أی مصدر تصل أذهاننا؟ إنّ أکثر الفلاسفة عدّوا الحس أحد مصادر المعرفة رغم ظهور قطبین على طرفی الإفراط والتفریط فی هذا المجال.
1 ـ «الحسیون» حیث یعتبرون الحس الطریق الوحید للمعرفة وینکرون المصادر الاُخرى کالعقل.
«إنّ هؤلاء الذین ظهروا فی القرن السابع عشر أنکروا قیمة البرهان القیاسی العقلی، واعتبروا اسلوب التجربة الاُسلوب الوحید والسلیم والمعتمد علیه فی هذا المجال، وتعتقد هذه المجموعة بعدم أصالة وتجذر الفلسفة النظریة العقلیة المستقلة عن العلوم التجریبیة، ویعدون العلم ثمرة الحواس فقط، والحواس لا تتعلق إلاّ بظاهر وعوارض الطبیعة، إذن لا اعتبار للمسائل الفلسفیة الأولیة، وذلک لأنّها نظریة وعقلیة بحتة وتتعلق بالاُمور غیر المحسوسة، ولا یدرک الإنسان هذه المسائل نفیاً أو إثباتاً»(1).
إنّ المادیین ومن ضمنهم أتباع المذهب «الدیالکتیکی» من المتحمسین لهذه النظریة، فهم یقولون:
«إذا انقطعت جمیع قنوات التأثیر الخارجی عن حسّنا، فهذا یعنی أنّا سوف لا نعرف شیئاً، وسیعجز الذهن عن جمیع نشاطاته، وتبقى معرفة الواقعیات أمراً محالا، وعلى هذا فالحس منشأ المعرفة ومبنى أحکامنا اتجاه أی مسألة، فینبغی القول أنّ الحس منبع المعرفة بل منبعها الوحید»(2).
2 ـ المجموعة الاُخرى هی التی تقع فی الطرف المقابل للمجموعة الاُولى تماماً وهی التی لا تولی أی أهمیّة للحس فی مجال المعرفة.
یقول «دیکارت»: «لا نستطیع الوثوق بالمفاهیم التی وصلتنا من الخارج بواسطة الحواس الخمسة بأنّ لها مصداقاً خارجیاً أم لا، وإذا کان لها مصداق فلا یقین لنا بتطابقه مع الواقع»(3).
مسار الحکمة فی اوربا: «یعتقد (دیکارت) أنّ محسوسات الإنسان لا تتطابق مع الواقع، وأنّ الحس هو وسیلة ارتباط بین جسم الإنسان والخارج، ویرسم لنا صورة کاذبة عن العالم، فهو یعتقد أن المفاهیم النظریة هی أساس العلم الواقعی»(4).
والخلاصة: أنّ هذه المجموعة تعتقد أن المعقولات فقط لها قیمة علمیة یقینیة، أمّا المحسوسات فلها قیمة علمیة غیر یقینیة(5).
إنّ المجموعةَ الاُولى تستند إلى أخطاء العقل النظری والاختلاف الفاحش بین العلماء فی المسائل العقلیة، بینما تستند المجموعة الثانیة إلى أخطاء الحواس، حیث یذکرون أعداداً لا تحصى من أخطاء حاسة البصر التی تعتبر أهم وأوسع حس للإنسان.
لکن ممّا لا شک فیه أنّ کلتا المجوعتین خاطئتان، ونوضح ما ندعیه بصورة مرکزة فنقول:
بالنسبة للحسیین یمکن حصر أهم إشکالاتهم فی النقاط التالیة.
1 ـ إنّ کلّ إنسان عند مشاهدته للموجودات الخارجیة یواجه مجموعة من الحوادث والقضایا الجزئیة لا یمکن الاستفادة منها للاستدلال، لأنّ کل استدلال یجب أن یستند إلى قضیة کلیة.
ومن هنا تبدأ مسؤولیة العقل، حیث یقوم بصیاغة قضایا کلیة من هذه الجزئیات، فمثلا نلاحظ أن قطعة الحجر تکسر الزجاج العادی فی ظروف مختلفة، فهذه الحوادث الجزئیة الحاصلة بالحس تنتقل إلى العقل، فیصوغ العقل قاعده کلیة تجاه هذه المسألة، وکذلک الأمر بالنسبة للتجربة فی الظروف والازمنة والأمکنة المختلفة التی تکشف عن أن الضوء ینتشر بصورة خط مستقیم، فالعقل یصوغ قاعدة کلیّة من هذه الحوادث الجزئیة لا وجود لها فی الخارج والموجود فی الخارج هو مصادیقها لا ذاتها.
وعلیه فالإدراکات الحسیة کالمواد الخام التی قد «تتحلل» وقد تترکب فی مختبر العقل، ومن خلال هاتین العملیتین نحصل على المفاهیم الکلیة التی یستفاد منها فی المنطق والاستدلال.
2 ـ ممّا لا شک فیه أنّه ینبغی الاستفادة من العقل لإصلاح الأخطاء الناشئة من خطأ الحواس، فعندما نقول:
فإذا اخطأ البصر فی رؤیة الأشجار المتوازیة متقاطعة من بعید فإنّ المعیار فی تشخیص و إدراک الخطأ هذا هو العقل.
صحیح أن تمییزنا لهذا الخطأ یستند إلى الحس أیضاً حیث إننا ندرک خطأ بصرنا من بعید لأنا طوینا الشارع من اوله إلى آخره عدة مرّات وشاهدنا الأشجار فی طول الشارع
متوازیة ولم تلتقِ فی مکان، لکن هذا الاستدلال الذی یستند إلى الحس یقوى عندما یقول لنا العقل إنّ اجتماع النقیضین محال، ویقول بامتناع أن تکون الأشجار متوازیة ثم تلتقی فی نقطة واحدة، فاستدلالنا بهذا الشکل یثبت لنا خطأ ما نشاهده من بعید. فی الحقیقة إن قضیة امتناع اجتماع النقیضین التی تدرک بالعقل تشکل حجر الأساس لجمیع الاستدلالات، وعلیه فلا یؤخد بالدلیل الحسی دون الاستناد إلیها.
3 ـ فضلا عما سبق، فإنّ ما ندرکه بالحس هو ظاهر الأشیاء، وما نرى من الجسم بالحس مجرد مظهره لا شیء آخر، وعلیه فبدون تدخل الإدراکات العقلیة لا نستطیع معرفة حقیقة الجسم.
قد یقال: إنّ الحواس لا دور لها لوحدها بل یجب الاستعانة بالإدراکات العقلیة حتى فی العلوم التجریبیة، لکن ینبغی الاذعان إلى هذه الحقیقة ـ وهی أنّ جمیع الإدراکات العقلیة حصلت بواسطة الحواس وکما یقول «جان لاک» الفیلسوف الانجلیزی المعروف: «لا شیء فی العقل لم یوجد قبله فی الحس».
إنّ هذه الجملة التی أصبحت مثلا وبقیت ذکرى منه تدل على أنّ الذهن کان کاللوحة البیضاء فی البدایة وقد ینقش علیها بعد ذلک بواسطة الحواس، وأن لا وظیفة للعقل غیر «التجرید» و«التعمیم» أو «التحلیل» و«الترکیب» لمدرکات الحواس.
لکن هذا خطأ فظیع، وذلک لأنّ علمنا بأنفسنا (الذی هو علم حضوری) لم یحصل بواسطة الحواس، کذلک علمنا بوجود الحواس، أو علمنا باستحالة اجتماع النقیضین لم یحصل عن طریق الحواس، فنحن ندرک محالة أن نکون موجودین ومعدومین فی آن واحد وإن لم نملک حواساً، کذا الأمر بالنسبة لقضایا أخرى لا حاجة فیها إلى الحواس.
وتوجد أبحاث کثیرة فی هذا المجال لو أسهبنا فیها لابتعدنا عن هدف هذا الکتاب، وتَطَرُّقُنا لبعضها هنا کان بهدف توضیح نظریتی «الحسیین» و«العقلیین» الذین حصروا سبل المعرفة فی بُعد واحد، وأن نظریتیهما سقیمتان وأن کلا من «الحس» و «العقل» یشکلان منبعاً ومصدراً للإدراک، کما انعکس ذلک فی القرآن المجید.
مصادر وسُبُل المعرفة / 2 ـ العقل و تحلیل عقلى