إنّ هناک حقائق لا یشک بها أحد إلاّ السوفسطائیون وکما قلنا سابقاً أنّهم ینکرون الحقائق بالسنتهم ویعتقدون بها فی قلوبهم وهی الحقائق التی لا حاجة إلى التفکیر فی إثباتها، فالکل یعرف مثلا أنّ اثنین زائداً اثنین یساوی أربعة، وأنّه لا یمکن أن یحصل اللیل والنهار أو الصیف والشتاء فی آن ومکان واحد، أو شخصاً واحداً یکون فی مکة والمدینة فی آن واحد وحتى أولئک الذین یعدّون اجتماع النقیضین أو الضدین ممکناً، فانّهم یتلاعبون بالألفاظ فقط، ویذعنون لهذه الحقائق قلبیاً، فمثلا بالنسبة لـ «اجتماع الضدین» یقولون بإمکان أن یکون الجو ممطراً فی ساعة ومشمساً فی ساعة اُخرى، إذن اجتماع الضدین أمر ممکن، أمّا إذا سألناهم هل یمکن أن یکون الجو ممطراً ومشمساً فی ساعة ومکان واحد؟ فسیجیبون: لا.
وفی مقابل هذه المعلومات البدیهیة هناک قسم آخر من المعلومات وهی «المعلومات النظریة» التی تحتمل الخطأ والتردید، وما ذکره المنکرون من عدم إمکانیة المعرفة فانّه یتعلق بهذا النمط من المعلومات.
کما أنّ هناک مجموعة من الحقائق مطلقة ولا نسبیة فیها کالأمثلة السابقة (العلاقات الریاضیة بین الأعداد وامتناع اجتماع النقیضین والضدین).
ولکن لا یمکن إنکار أنّ هناک مجموعة من المفاهیم النسبیة التی تتغیر بتغیر الظروف، فمثلا الحرارة والبرودة أمران نسبیان، فکل شیء حرارته أکثر من حرارة جسم الإنسان فهو حار، وکل شیء حرارته أقل من حرارة جسم الإنسان فهو بارد، فإذا ما تغیرت درجة حرارة أجسامنا تتغیر مفاهیم الحرارة والبرودة عندنا، ولهذا قد یجلس شخصان فی غرفة یشعر أحدهما بالبرودة فیطلب تشغیل المدفئة والآخر یشعر بالحرارة فیطلب فتح الأبواب.
بالطبع، فی هذا المجال توجد حقیقتان وهما درجة حرارة الجسم ودرجة حرارة الغرفة وتصورنا عن الحرارة والبرودة ینشأ عن المقارنة بین هاتین الحقیقتین فیختلف الحکم تجاه المسألة.
کما أنّ فی العالم هناک حقائق ثابتة وحقائق متغیرة، والأمثلة التی ذکرناها سابقاً وما شابهها تدخل تحت عنوان الحقائق الثابتة، وحتى المارکسیون القائلون بتغیر وتبدل الحقائق فی العالم یستثنون حقیقة التحول والتغیر کقانون ثابت، ویعتقدون أنّ کل ما فی العالم فی تحول وتغیّر مستمر إلاّ نفس قانون التحول والتغیر فانّه ثابت دائماً (بالطبع هناک مجموعةً اُخرى من القوانین یفرضون ثباتها اضافةً إلى هذا القانون).
وإذا تجاوزنا الأمر السابق فإنّ هناک «معرفةً إجمالیةً» ومعرفةً تفصیلیةً» هناک حقائق لا نعرف عنها إلاّ شیئاً إجمالیاً، فلا معرفة لنا بخصائصها وعلاقاتها بالأشیاء الاُخرى فی العالم تفصیلا، لکن عدم معرفتنا التفصیلیة عنها لا یعنی نفی المعرفة الإجمالیة عنها.
فمثلا العین جزء من الجسم، وما لم نعرف الجسم بجمیع أعضائه جیداً لا نتمکن من معرفة علاقة العین بأعضاء الجسم الاُخرى، لکن عدم معرفتنا للعین تفصیلا لا یمنع من معرفتنا لها إجمالیاً وأنّها تقع فی الرأس وتحت الجبین، ولها سبع طبقات، وکل طبقة مهمّة خاصة بها، وفائدتها رؤیة المناظر واللقطات المتنوعة.
وبالنظر لما تقدم یتضح أنّ أدلة المخالفین لنظریة المعرفة نشأت من عدم دقتهم فی التقسیمات السابقة، فعندما یقولون: إنّ العالم کتلة واحدة، وعدم معرفتنا لمفردة من مفرداته یفقدنا المعرفة بأی جزء منه، فقولهم هذا خلطٌ فی الحقیقة بین المعرفة التفصیلیة والإجمالیة، لأنّا إذا أردنا معرفة جزء ما فی العالم بجمیع علاقاته بباقی أجزاء العالم یجب علینا معرفة جمیع أجزاء العالم بدقّة، فهذه معرفة تفصیلیة، بینما المعرفة الإجمالیة لا تستدعی ذلک کله، ومعرفتنا للأرض والسماء وأفراد البشر والکائنات التی من حولنا هی کلها من هذا القبیل من المعرفة(1).
وهناک ایضاحات أکثر فی هذا المجال سنعرض لها فی الفصل اللاحق إن شاء الله تعالى.