إنّ التعارض إنّما یتصوّر فی ما إذا کان کلّ واحد من الدلیلین ظنیّاً، إمّا من ناحیة السند، أو الدلالة، أو جهة الصدور، وأمّا إذا کان أحدهما قطعیّاً من جمیع الجهات والآخر ظنّیاً من بعض الجهات فلا إشکال فی تقدیم الأوّل على الثانی، ولا معنى لتعارضهما، فالتعارض بین الآیات القرآنیة إنّما یتصوّر فیما إذا کانت کلّ واحدة من الآیتین المتعارضتین ظاهرة فی الحکم، أی کانت ظنّیة الدلالة، وهکذا فی الخبرین المتواترین والإجماعین المحصّلین، فیتصوّر التعارض فیهما فیما إذا کان الخبر المتواتر ظاهراً فی الحکم وکان للإجماع المحصّل معقد لفظی ظاهر فی الحکم.
ومن ذلک یعلم أنّه لا یتصوّر التعارض فیما إذا کان کلّ من الدلیلین قطعیّاً من جمیع الجهات لأنّه ینافی العلم بکذب أحدهما، بل لا یمکن فرض وجود دلیلین قطعیین متخالفین حتّى یتکلّم فیهما من هذه الجهة.
هذا کلّه فی ما أردنا إیراده بعنوان المقدّمة.
إذا عرفت هذا فلنتکلّم فی أصل البحث فنقول (ومنه سبحانه نستمدّ التوفیق): هیهنا فصول:
الفصل الأوّل: فی مقتضى الأصل الأوّلی فی المتعارضینفهل الأصل فی التعارض التساقط، أو التخییر، أو الجمع مهما أمکن؟
قد یقال: بلزوم الجمع بینهما استناداً إلى القاعدة المعروفة «الجمع مهما أمکن أولى من الطرح» ولعلّ أوّل من طرحها ابن أبی جمهور الأحسائی فی غوالی اللئالی وإن تصدّى للعمل بها شیخ الطائفة(رحمه الله) فی الاستبصار (ولا یخفى أنّ الأولویة فی هذه القاعدة هى الأولویّة التعیینیة، أی وجوب الجمع مهما أمکن لا استحبابه نظیر ما ورد فی قوله تعالى: (وَأُوْلُوا الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض)(1)).
ولکنا نقول: الجمع یتصوّر على أقسام:
أوّلها: الجمع التامّ بین الدلیلین بالعمل بتمامهما من دون أی تصرّف فیهما فإن أمکن ذلک ولو بتدبیر وبذل جهد فلا إشکال فی وجوبه بل هو خارج عن محلّ الکلام ومن التعارض.
ثانیهما: أن یکون المراد منه العمل ببعض کلّ منهما أو بعض أحدهما وتمام الآخر عملا یوافقه العرف ویستحسنه، فلا إشکال أیضاً فی تعیّنه وکونه أولى من الطرح کما فی العام والخاصّ، ولکنّه أیضاً خارج عن محلّ الکلام لأنّه لو کان بینهما تعارض فإنّما هو فی النظر البدوی.
ثالثها: أن یکون المراد منه الجمع بین الحقوق المتزاحمة فی باب التزاحم، کالجمع بین حقوق الغرماء فی المفلّس فلا ریب أیضاً فی لزوم هذا الجمع بمقدار الإمکان ولکنّه أیضاً خارج عن محلّ الکلام کما لا یخفى.
رابعها: أن یکون المراد منه مطلق الجمع ورفع الید عن ظاهر کلیهما أو أحدهما بتأویلهما أو تأویل أحدهما من دون أی شاهد عرفی، وهو ما یسمّى بالجمع التبرّعی کما قد یظهر الإصرار علیه من بعض کلمات شیخ الطائفة(رحمه الله) فی کتاب الإستبصار، وهذا هو الذی یمکن أن یتکلّم فیه فی محلّ الکلام.
ولکن مثل هذا الجمع یرد علیه:
أوّلا: أنّه لا دلیل على أولویته عند الطرح من العرف والعقلاء.
وثانیاً: أنّه یوجب الهرج والمرج فی الفقه لأنّه لا ضابطة للجمع التبرّعی فیمکن لکلّ فقیه أن یختار نوع جمع خاصّ لروایتین غیر ما یختاره الآخر.
وثالثاً: أنّه یعارض جمیع أخبار الترجیح عند وجود المرجّحات أو حملها على مورد النادر، أی المورد الذی لا یمکن الجمع فیه ولو بالتأویل وإرتکاب خلاف الظاهر، وهکذا یعارض أخبار التخییر.
فظهر أنّه لا یمکن فی المقام الجمع بین المتعارضین، فیدور الأمر بین التخییر والتساقط، فهل القاعدة الأوّلیّة تقتضی التساقط مطلقاً، أو التخییر مطلقاً، أو التفصیل بین المبانی المختلفة فی حجّیة الأمارات من الطریقیّة وأنواع السببیّة؟ الصحیح هو الأخیر.
توضیح ذلک: أنّ المراد من الطریقیّة أنّ الأمارة لا توجد مصلحة فی مؤدّاها بل إنّها مجرّد طریق إلى الواقع فإن أصابت إلى الواقع فمؤدّیها هو الواقع، وإلاّ فلا یکون شیئاً، والمراد من السببیّة أنّ الأمارة توجب حصول مصلحة فی المؤدّى وهى على أقسام أربعة:
1 ـ السببیّة الکاملة التی قال بها جمع کثیر من العامّة فی ما لا نصّ فیه، وحاصلها: أنّ الفقیه یجتهد فی ملاحظة المصالح والمفاسد ثمّ یختار حکماً بلحاظها، وفی الواقع له وضع القانون الإلهی فیما لم یرد به نصّ، وهذا المعنى ثابت لجمیع المجتهدین وإن اختلفوا فی وضع هذه الأحکام اختلافاً کثیراً، فکلّ واحد منها حکم إلهی یمضیه الله، وهذا هو التصویب الأشعری المعروف عندهم الباطل عندنا، وهذا النوع من التصویب غیر مذکور فی کلمات أصحابنا غالباً.
وهو من أشنع ما التزموا به ممّا یلزم منه نقض التشریعات الإسلامیّة وحاجتها إلى الإکمال من ناحیة البشر، بل أضعف ممّا یتداول فی العصر الحاضر من وضع القوانین من ناحیة الوکلاء المنتخبین من الناس فإنّ نتیجته قانون واحد لبلد واحد لا قوانین کثیرة بعدد آحاد الفقهاء، ولنعم ما قال مولانا أمیر المؤمنین فیما روی عنه(علیه السلام) فی نهج البلاغة فی ذمّ الفتیا حیث قال: «ترد على أحدهم القضیّة فی حکم من الأحکام فیحکم فیها برأیه ثمّ ترد تلک القضیة بعینها على غیره فیحکم فیها بخلاف قوله، ثمّ یجتمع القضاة بذلک عند الإمام الذی استقضاهم، فیصوّب آراءهم جمیعاً وإلههم واحد ونبیّهم واحد وکتابهم واحد أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه»(2).
وهو مخالف أیضاً لحدیث الثقلین المتواتر بین الفریقین المانع عن ضلالة الاُمّة بصریحه، وخطبة النبی(صلى الله علیه وآله) فی حجّة الوداع: «أیّها الناس ما من شیء یقرّبکم إلى الجنّة ویباعدکم عن النار إلاّ وقد أمرتکم به وما من شیء یقرّبکم إلى النار ویباعدکم عن الجنّة إلاّ وقد نهیتکم عنه»(3)، بل هو مخالف لقوله تعالى: (الْیَوْمَ أَکْمَلْتُ لَکُمْ دِینَکُمْ ...) فإنّ الدین الکامل لا یحتاج فی تشریعاته إلى أبناء البشر واتّباع اُمّته، والإنصاف أنّهم لم یقعوا فی هذه المشکلة إلاّ بترک الثقل الأصغر أعنی أئمّة أهل البیت(علیهم السلام) فهذه جریمة مترشحة عن ذاک الجرم ونتیجة لذلک الإثم.
وعلى کلّ حال لا یخفى فی أنّه بناءً على هذا المعنى للسببیّة تدخل الأمارات المتعارضة فی باب التزاحم ویکون مقتضى القاعدة حینئذ التخییر (بناءً على کون المصلحة السلوکیّة فیما یکون أمارة اقتضائیّة، وأمّا إذا قلنا بأنّها ثابتة فی الأمارة الفعلیّة فتدخل فی باب التعارض کما هو ظاهر).
2 ـ ما قال به المعتزلی وهو أنّ لنا واقعاً محفوظاً قد تصیبه الأمارة وقد تخطىء، ولکنّها فی صورة الخطأ توجد مصلحة أقوى من مصلحة الواقع فی مؤدّیها، فتوجب سقوط الواقع عن الفعلیة وانقلاب الحکم الواقعی إلى مؤدّى الأمارة.
وهذا المعنى أیضاً أجمع الأصحاب على بطلانه، ویکون مقتضى القاعدة بناءً علیه هو التخییر (على تفصیل مرّ ذکره بین الحجّیة الاقتضائیّة والفعلیّة) لأنّ الأخبار المتعارضة تدخل حینئذ فی باب التزاحم أیضاً.
نعم قد فصّل المحقّق الخراسانی(رحمه الله) هنا وقال: هذا إذا قلنا بالسببیّة مطلقاً ولو فیما علم کذبه، وأمّا إذا قلنا بسببیة الأمارات فی خصوص ما لم یعلم کذبه من الخبرین المتعارضین بأن لا یکون ما علم کذبه مسبّباً لحدوث مصلحة أو مفسدة فی المتعلّق، فحالهما حینئذ من حیث مقتضى القاعدة الأوّلیّة کحالهما بناءً على الطریقیّة عیناً (من التساقط کما سیأتی) وهذا هو المتیقّن من أدلّة اعتبار الأمارة من سیرة العقلاء والآیات والأخبار، وما ذکره قریب من الصواب.
3 ـ السببیّة الظاهریّة، والمراد منها أنّ أدلّة حجّیة الأمارة تجعل حکماً ظاهریاً مماثلا لمؤدّیها، وهذا ما ذهب إلیه جماعة من الأعاظم، وهو المقصود ممّا حکاه صاحب المعالم عن العلاّمة (رحمه الله) من أنّ ظنّیة الطریق لا تنافی قطعیّة الحکم، فمراده من الحکم القطعی إنّما هو الحکم القطعی الظاهری بلا ریب.
والنتیجة بناءً على هذا المعنى هو التساقط بناءً على کون الحکم الظاهری المماثل مجرّد طریق إلى الواقع فحسب، من دون حصول أی مصلحة فیه (کما هو الظاهر)، وأمّا إذا قلنا إنّها توجب فی مؤدّیها حصول مصلحة أقوى من مصلحة الواقع أو المساوی لها فهو یشبه حینئذ مبنى السببیّة المعتزلیة، ونتیجته التزاحم بین الأمارة التی أصابت إلى الواقع والأمارة التی أخطأت ولکنّها أوجبت مصلحة فی مؤدّیها، فیکون مقتضى الأصل حینئذ التخییر أیضاً.
4 ـ السببیّة السلوکیّة أو المصلحة السلوکیّة، والمراد منها أنّ أدلّة حجّیة الأمارة لا توجد مصلحة فی مؤدّیها فی صورة الخطأ بل إنّها توجب حصول مصلحة فی نفس السلوک على طبقها ما یعادل مصلحة الواقع، ففی مثال الأمارة التی قامت على وجوب صلاة الجمعة فی زمان الغیبة لا توجب أدلّة حجّیتها حصول مصلحة فی نفس صلاة الجمعة بل توجد مصلحة فی العمل بقول الثقة مثلا وسلوک هذا الطریق.
فعلى هذا المبنى أیضاً یکون مقتضى القاعدة التخییر والدخول فی باب التزاحم (على تفصیل مرّ ذکره) ولکن لا دلیل على حصول هذه المصلحة فی مقام الإثبات، سلّمنا ـ لکن یرد علیه ما مرّ من إشکال المحقّق الخراسانی(رحمه الله) من أنّ المتیقّن من أدلّة اعتبار الأمارة هو سببیّة الأمارات فی خصوص ما لم یعلم کذبه من الخبرین.
هذا کلّه بناءً على القول بالسببیة.
وأمّا على مبنى الطریقیّة فذهب أکثرهم إلى التساقط، واستدلّوا لذلک بوجود العلم الإجمالی بکذب أحد الطریقین، حیث إنّه یوجب عدم إعتماد العرف بکلیهما فیسقط کلّ واحد منهما عن الطریقیّة والحجّیة.
وإن شئت قلت: إنّ أغلب الطرق الشرعیّة مأخوذة من الطرق العقلائیّة وامضاء لها، ولا إشکال فی أنّ العرف والعقلاء فی باب الشهادات والدعاوی ومقام القضاء وغیرها یحکمون ببطلان کلا الطریقین إذا شهد کلّ منهما على خلاف الآخر مثلا.
وللمحقّق الأصفهانی(رحمه الله) کلام فی هذا المجال لا تخلو الإشارة إلیه من فائدة، وحاصله: أنّ الاحتمالات المتصوّرة فی ما نحن فیه أربعة:
1 ـ أن یکون أحدهما لا بعینه حجّة، فإنّه إذا علمنا بکذب أحدهما لا بعینه صارت الحجّة أیضاً أحدهما لا بعینه، ولا إشکال فی بطلان هذا الاحتمال لأنّ عنوان أحدهما لا بعینه انتزاع ذهنی لا وجود له فی الخارج، فلا تتعلّق به وصف الحجّیة، فإنّ الصفات سواء کانت حقیقیة أو اعتباریة لا تعرض إلاّ للوجود الخارجی.
2 ـ أن تکون الحجّة ما یکون مطابقاً للواقع، وهذا أیضاً لا یمکن الالتزام به لعدم العلم بمطابقة واحد منهما للواقع وإن إحتمل ذلک، فإنّ المفروض ظنّیة کلّ واحد من الخبرین.
3 ـ أن یکون کلّ منهما حجّة (وکأنّ مراده حجّیة کلیهما فی مدلولهما الإلتزامی وهو نفی الثالث) ولکنّه أیضاً لا یمکن الالتزام به لأنّه وإن کان المقتضی للحجّیة فی کلیهما موجوداً والمانع مفقوداً ولکن سنخ المقتضی لا یقبل التعدّد، لأنّ تنجّز الواقع الواحد على تقدیر الإصابة لا یعقل فعلیته فی کلیهما، فالواقع غیر قابل للفعلیة إلاّ فی أحدهما.
4 ـ عدم حجّیة کلیهما، وهذا هو المتعیّن(4).
أقول: وهنا احتمال خامس وهو التخییر، ولکنّه أیضاً منتف لعدم الدلیل علیه من العقل ولا النقل (إلاّ فی مورد خاصّ).
فتلخّص من جمیع ذلک أنّ الأصل فی المتعارضین التساقط.
ثمّ إنّ ما ذکرنا من أنّ قضیة التعارض بین المتعارضین هو التساقط إنّما هو بملاحظة الأصل الأوّلی والقاعدة الأوّلیّة فیعمل به ما لم ینتقض بدلیل خاصّ تعبّدی کما انتقض فی الخبرین المتعارضین، فإنّ الإجماع والأخبار العلاجیة قائمان على عدم سقوطهما بل لابدّ من العمل بأحدهما إمّا تعییناً أو تخییراً، نعم إنّها باقیة على حالها فی غیر الخبرین سواء فی الشبهة الحکمیّة کما فی الإجماعین المحصّلین المتعارضین أو فی الشبهة الموضوعیّة کما فی البیّنتین المتعارضتین.
بقی هنا شیء:
وهو أنّ الصحیح بین المبنیین (مبنى السببیّة ومبنى الطریقیّة) إنّما هو مبنى الطریقیّة، وذلک لأنّ أدلّة حجّیة الأمارات فی الواقع امضاءً لبناء العقلاء، ولا إشکال فی أنّهم یعتمدون على مثل قول الطبیب وأهل الخبرة بلحاظ کونه طریقاً إلى الواقع لا لحصول مصلحة فی قول الطبیب ورأیه ولو کان مخالفاً مع الواقع.
إن قلت: إنّ إجازه الشارع العمل بمؤدّى الأمارة مطلقاً حتّى فیما إذا کان موجباً لتفویت الواقع تکشف عن تولید مصلحة فی السلوک على طبقها، أی المصلحة السلوکیّة (لا المصلحة فی نفس المؤدّى حتّى یرد علیه لزوم التصویب المجمع على بطلانه).
قلنا: إنّ إذنه بالعمل بالأمارة مطلقاً یکون من باب إنقطاع ید المکلّف عن الوصول إلى العلم بالواقع غالباً، وهذا ما یشهد علیه الوجدان فی باب ملکیّة الأشخاص بالنسبة إلى أموالهم وفی باب الدعاوی فی القضاء، فإنّه لا یحصل للإنسان العلم بملکیّة زید مثلا بالنسبة إلى أمواله أو بحقّانیة أحد طرفی الدعوى، کما أنّه قد یوجب اعتبار حصول العلم للعسر والحرج کما فی باب الطهارة والنجاسة والأملاک وغیرهما فإنّ حصول العلم فیها وإن کان ممکناً للإنسان أحیاناً ولکنّه یستلزم منه العسر والحرج غالباً کما لا یخفى.
لا أقول أنّ حجّیة الأمارات تکون من باب إنسداد العلم (الإنسداد الکبیر) بل أقول: أنّ الحکمة فی حجّیة غالب الأمارات وجود انسداد صغیر فی مواردها.
ثمّ إنّه بناءً على تساقط الخبرین المتعارضین هل تبقى دلالتهما الالتزامیّة على نفی الثالث على حالها، أو أنّها أیضاً تسقط؟ فإذا قامت بیّنة (فی الشبهة الموضوعیّة) على أنّ هذه الدار لزید مثلا وبیّنة اُخرى على أنّها لعمرو فهل یثبت بهما عدم کونها لبکر، أو لا؟ وهکذا فی الشبهات الحکمیّة، فإذا قام الخبر على کون نصاب المعدن عشرین دیناراً ودلّ خبر آخر على أنّه دینار واحد فهل یبقى مدلولهما الالتزامی (وهو أصل وجود نصاب لوجوب الخمس فی المعدن الدائر أمره بین العشرین والدینار الواحد) على حاله فتکون النتیجة عدم وجوب التخمیس فی الأقلّ من دینار، أو أنّه أیضاً یسقط وتکون النتیجة وجوب الخمس مطلقاً حتّى فی الأقلّ من دینار؟ فیه قولان:
أحدهما: ما ذهب إلیه المشهور منهم صاحب الکفایة والمحقّق النائینی والمحقّق الأصفهانی والمحقّق الحائری(رحمه الله) فی الدرر وجماعة اُخرى من المتأخّرین، وهو عدم سقوط الدلالة بالنسبة إلى نفی الثالث.
ثانیهما: ما ذهب إلیه بعض الأعلام کما فی مصباح الاُصول من سقوطها حتّى من هذه الجهة.
ولابدّ قبل الورود فی باب أدلّة الطرفین أن نشیر إلى أنّ هذا البحث إنّما یجری فیما إذا احتملنا کذب کلا الخبرین، أی کان کلّ من الدلیلین ظنّیاً، وأمّا إذا علمنا صدق أحدهما من دلیل خارج کالإجماع (کما أنّه کذلک فی الخبرین الدالّین على وجوب صلاة الجمعة ووجوب صلاة الظهر فی یوم الجمعة حیث إنّ الإجماع قام على صدق أحدهما وعدم تکلیف ثالث فی البین کوجوب کلیهما أو عدم وجوب کلیهما) فلا موضع لهذا النزاع، لأننا نقطع حینئذ بنفی الثالث.
وعلى أی حال فقد استدلّ للقول الأوّل بوجهین:
الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فإنّه قال: «نعم یکون نفی الثالث بأحدهما لبقائه على الحجّیة وصلاحیته على ما هو علیه (من عدم التعیّن) لذلک لا بهما» وحاصله ما مرّ منه من أنّ ما یسقط عن الحجّیة إنّما هو أحد الخبرین لا بعینه، فیکون أحدهما الآخر لا بعینه باق على حجّیته، فینفی به الثالث، فلا یجوز الخروج عن مؤدّى المجموع.
ولکن یرد علیه: إشکال بحسب مقام الثبوت، وإشکال بحسب مقام الإثبات، أمّا الأوّل:
فهو ما مرّ فی کلام المحقّق الأصفهانی(رحمه الله) من أنّ الصفات الحقیقیّة والاعتباریّة لا تعرض إلاّ للوجود الخارجی، ولا وجود لعنوان أحدهما لا بعینه فی الخارج فلا یتعلّق به وصف الحجّیة بل هو أمر إنتزاعی ذهنی.
وإن شئت قلت: الغرض من جعل شیء حجّة إنّما هو بعث المکلّف إلیه وانبعاثه عنه فی مقام العمل، ولا إشکال فی عدم إمکان البعث إلى عنوان أحدهما لا بعینه، لعدم إمکان انبعاث المکلّف عنه عملا، نعم یمکن الانبعاث إلى کلیهما تخییراً ولکن لا ربط له بما نحن فیه.
وأمّا الثانی: فهو أنّه لا دلیل على حجّیة أحدهما لا بعینه فی مقام الانبعاث، إذ إنّ أدلّة حجّیة الأمارات کمفهوم آیة النبأ لا تعمّ أحد العدلین (مثلا) لا بعینه. وبعبارة اُخرى: لیس عنوان أحدهما لا بعینه مصداقاً من مصادیق خبر العادل فی مفهوم الآیة (إن جاءکم عادل فلا تبیّنوا).
الوجه الثانی: ما استدلّ به بعض الأعلام، وهو أنّ الخبرین المتعارضین یشترکان فی نفی الثالث بالدلالة الالتزامیّة فیکونان معاً حجّة فی عدم الثالث، وتوهّم أنّ الدلالة الالتزامیّة فرع الدلالة المطابقیّة وبعد سقوط المتعارضین فی المدلول المطابقی لا مجال لبقاء الدلالة الالتزامیّة لهما فی نفی الثالث ـ فاسد فإنّ الدلالة الالتزامیّة إنّما تکون فرع الدلالة المطابقیة فی الوجود لا فی الحجّیة»(5).
ولکن یرد علیه:
أوّلا: أنّ هذا صحیح فی مقام الثبوت لا فی مقام الإثبات لأنّ أدلّة الحجّیة فی مقام الإثبات إنّما تعمّ الدلالة الالتزامیّة بتبع الدلالة المطابقیّة ومن طریقها وفی طولها لا فی عرضها، وبعد فرض عدم شمولها للمدلول المطابقی لا یبقى مجال لحجّیة المدلول الالتزامی، وبعبارة اُخرى: أدلّة حجّیة الأمارات لا تشمل شیئاً من المتعارضین من أوّل الأمر للزوم التناقض، فلا یبقى مورد للدلالة الالتزامیّة کما لا یبقى مورد للدلالة المطابقیّة.
وثانیاً: أنّه مخالف للسیرة العقلائیّة والإرتکازات العرفیّة، فإنّها قائمة على سقوط الدلالة الالتزامیّة بتبع الدلالة المطابقیّة، فإذا أخبر ثقة بقدوم زید یوم الجمعة وأخبر ثقة آخر بقدومهیوم السبت، فلا إشکال فی سقوط کلیهما عن الحجّیة عند العرف حتّى فی مدلولهما الالتزامی، وهو عدم قدوم زید یوم الأحد، ولذا یبقى عندهم احتمال قدومه یوم الأحد، وهکذا إذا قامت بیّنة على أنّ هذه الدار لزید وقامت بیّنة اُخرى على کونها لعمرو، فبعد تساقطهما لا یبقى مجال لنفی احتمال کونها لشخص ثالث.
وثالثاً: أنّه مخالف لما یستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة التی تدلّ على لزوم الأخذ بأحوط الاحتمالات فیما إذا تعارض الخبران لا بأحوطهما فإنّ لازمها عدم نفی الثالث، أی سقوط دلالتهما الالتزامیّة على نفی الثالث، ولکن سیأتی الحدیث عنها والنقاش فی دلالتها فانتظر.
فظهر ممّا ذکرنا أنّ الصحیح فی المسألة هو القول الثانی، وهو عدم نفی الثالث، کما قد ظهرت الثمرة المترتّبة على هذا البحث، حیث إنّه بناءً على نفی الثالث لا یمکن الرجوع إلى الإطلاقات والاُصول العملیّة بعد سقوط الخبرین، ففی مثال دوران الأمر بین العشرین والواحد فی نصاب المعدن لابدّ من الجمع بین الخبرین والأخذ بأقلّ النصابین لانتفاء احتمال ثالث فی البین (وهو عدم اعتبار النصاب رأساً ووجوب الخمس حتّى فی الأقل من دینار) مع أنّه بناءً على القول الثانی وهو عدم نفی الثالث یمکن الرجوع إلیها، وهى فی المثال أصالة إطلاقات وجوب الخمس فی المعدن، وهى تقتضی وجوب الخمس حتّى فی الأقل من دینار، أی تقتضی عدم اعتبار النصاب رأساً.
هذا کلّه فی الفصل الأوّل، وهو مقتضى الأصل الأوّلی فی المتعارضین.
الفصل الثانی: فی مقتضى الأصل الثانوی فی المتعارضینلا شکّ فی انتقاض الأصل الأوّلی (أصالة التساقط فی الدلیلین المتعارضین) فی الأخبار المتعارضة، فقد قام الدلیل فیها على عدم سقوط کلیهما عن الحجّیة، والکلام فیه یقع فی مقامین:
1 ـ فی أخبار التعادل وحکم الخبرین المتعارضین بعد التعادل والتکافؤ.
2 ـ فی أخبار التراجیح ولزوم أعمال المرجّحات قبل أن تصل النوبة إلى التعادل والتکافؤ.