لا إشکال فی أنّ المراد من التزاحم هنا لیس هو التزاحم فی الملاکات بالنسبة إلى فعل واحد، کما إذا کان فی فعل واحد جهة مصلحة تقتضی إیجابه، وجهة مفسدة تقتضی تحریمه، فلیس للمکلّف دخل فی هذا التزاحم، بل أمره وملاحظة الجهات وما هو الأقوى من الملاکات فیه بید المولى، فهو خارج عن محلّ الکلام، وإنّما المراد من التزاحم فی ما نحن فیه هو تزاحم الأحکام فی مقام الامتثال بأن توجّه إلى المکلّف تکلیفان لا یقدر على الجمع بینهما، کما إذا توقّف إنقاذ الغریق على التصرّف فی الأرض المغصوبة، أو کان هناک غریقان لا یقدر المکلّف إلاّ على إنقاذ أحدهما.
والفرق بین هذا النوع من التزاحم وبین التعارض یتلخّص فی أمرین:
1 ـ علم المکلّف بکذب أحد الدلیلین فی باب التعارض مع علمه بصدقهما فی باب التزاحم.
2 ـ التعارض إنّما هو بین الدلیلین وفی مقام الإثبات، أی مقام الدلالة والکشف عن الواقع، وبتعبیر آخر: التعارض إنّما هو بین محتواهما فی مقام الإثبات، فیکون أحدهما صادقاً فی کشفه والآخر کاذباً.
وأمّا التزاحم فیقع بین الحکمین المدلولین الواقعیین من ناحیة الامتثال بعد الفراغ عن تمامیة دلیلهما وصدق کلیهما، ولذلک یکون المرجّحات فی التعارض بما یرجع إلى الدلالة والسند وشبههما، وفی التزاحم باقوائیة الملاک وأهمیّة أحد الحکمین بالنسبة إلى الحکم الآخر.
نعم، قد یکون التزاحم سبباً للتعارض، وهو فیما إذا کان کلّ واحد من المتزاحمین ظاهراً فی الفعلیّة، فیقع التعارض حینئذ بین مدلولیهما للعلم بکذب أحدهما کما لا یخفى.
وقد ظهر بما ذکرنا أوّلا: أنّ الترجیح أو التخییر فی باب التزاحم عقلی، لأنّ العقل یحکم بترجیح أقوى الملاکین على الآخر، ویحکم بالتخییر فی المتساویین من ناحیة الملاک، بخلاف باب التعارض حیث إنّ العقل یقضی بالتساقط فیه، ویکون الحکم بالتخییر أو بترجیح ما وافق کتاب الله وطرح ما خالفه مثلا، شرعیاً وتعبّدیاً، نعم لو صارت المرجّحات موجبة لتمییز الحجّة عن اللاّحجّة فیحکم العقل حینئذ بترجیح الحجّة فیکون الترجیح عقلیاً، ولکنّه خارج عن باب التعارض لأنّه عبارة عن التنافی بین الحجّتین.
وثانیاً: أنّ الحکم الأوّلی ومقتضى الأصل والقاعدة الأوّلیّة فی باب التعارض هو التساقط إلاّ أن یدلّ دلیل شرعی تعبّدی على الترجیح أو التخییر.
بقی هنا شیء:
وهو کلام للمحقّق النائینی(رحمه الله) قابل للمناقشة ولا یخلو ذکره عن فائدة أو فوائد...
قال: إنّ الترجیح فی باب التزاحم یکون باُمور خمسة مترتّبة أجنبیة کلّها عن مرجّحات باب التعارض:
1 ـ أن یکون أحد الواجبین موسعاً والآخر مضیّقاً، فإنّ المضیّق یتقدّم على الموسع لا محالة.
2 ـ أن تکون القدرة المعتبرة فی أحد الحکمین عقلیّة وغیر معتبرة فی الملاک، وإنّما کان اعتبارها فی الخطاب من جهة حکم العقل بقبح خطاب العاجز، وفی الآخر شرعیّة ودخیلة فی الملاک فإنّ ما اعتبر القدرة فیه عقلا یتقدّم على ما اعتبر فیه شرعاً، والوجه فیه ظاهر.
3 ـ أن یکون أحد الواجبین ممّا له البدل دون الآخر، فیتقدّم ما لیس له البدل على ما له البدل، والسرّ فیه واضح أیضاً.
4 ـ أن یکون أحد المتزاحمین من دون أن یکون هناک شیء من المرجّحات السابقة أهمّ من الآخر فیقدّم الأهمّ على المهمّ.
5 ـ أن یکون أحد الحکمین سابقاً فی الزمان على الآخر، فإنّ السابق منهما یکون معجّزاً مولویاً عن الآخر، فإذا دار الأمر بین القیام فی الرکعة الاُولى أو الثانیة بحیث لا یتمکّن المکلّف من الجمع بینهما فلا محالة یکون القیام فی الرکعة الاُولى هو المتعیّن، وبذلک یکون المکلّف عاجزاً عن القیام فی الثانیة فیسقط (وکما إذا دار الأمر بین الصیام فی النصف الأوّل من شهر رمضان والنصف الآخر منه بحیث لا یتمکّن المکلّف من الصیام فی جمیع الشهر)(1).
ولکن یرد علیه:
أوّلا: أنّ تعبیره فی صدر کلامه بالمترتّبة مشعر بوجود ترتّب منطقی بین هذه الاُمور الخمسة مع أنّه لا دلیل على ذلک أصلا.
وثانیاً: أنّ جمیع هذه الاُمور خارجة عن باب التزاحم إلاّ الأمر الرابع (وهو أن یکون أحدهما أهمّ من الآخر) وقد أشرنا إلیه سابقاً.
أمّا الأمر الأوّل: فلأنّ المتزاحمین عبارة عن ما یمکن الجمع بینهما، ولا إشکال فی إمکان الجمع بین الموسّع والمضیّق عرفاً.
وهکذا الأمر الثانی: لأنّ الواجب المطلق لا یکون متزاحماً مع الواجب المشروط، فإنّ الحجّ المشروط بالاستطاعة مثلا إنّما یصیر واجباً فیما إذا لم یکن هناک واجب آخر، وبعبارة اُخرى: لا تتحقّق الاستطاعة (التی هى شرط فعلیّة وجوب الحجّ) إذا أدّى إتیان الحجّ ترک واجب أو فعل حرام.
وأمّا الأمر الثالث: فلأنّه إمّا أن یکون البدل فیما له البدل فی عرض المبدل فیکون التیمّم مثلا فی عرض الوضوء، أو أنّه فی طول المبدل، فإن کانا فی عرض واحد کان المبدل (وهو الوضوء فی المثال) واجباً تخییریاً، ولا إشکال فی أنّه لا تعارض بینه وبین الواجب التعیینی وهو تطهیر الثوب فی المثال، وإن کانا طولیین فلا محالة کان الوضوء أقوى ملاکاً من التیمّم فإتیانه مع القدرة على إتیان الوضوء موجب لتفویت درجة من المصلحة، فیدور الأمر فی الواقع بین رفع الید عن هذه الدرجة من المصلحة وبین مصلحة تطهیر الثوب فتدخل المسألة فی باب الأهمّ والمهمّ فلا یصحّ الحکم بتقدیم ما لیس له البدل على ما له البدل دائماً، بل لعلّ تلک الدرجة من المصلحة کانت أقوى وأهمّ من مصلحة التطهیر.
وأمّا الأمر الخامس: فکذلک أنّه خارج من باب التزاحم، لأنّه متفرّع على فعلیّة وجوب کلا الحکمین فی عرض واحد. مع أنّ وجوب الرکعة الثانیة أو وجوب الصیام فی النصف الثانی من شهر رمضان لا یکون فعلیّاً قطعاً.