ولنا فی تعیین معانی اللغات وتشخیص حدودها ثلاثة طرق:
1 ـ الرجوع إلى کتب اللغة، وقد مرّت حجّیة قول اللغوی.
2 ـ الرجوع إلى موارد الاستعمال إذا بلغ إلى حدّ الإطّراد.
3 ـ الرجوع إلى المتبادر إلى الذهن، وهى تفید بالإضافة إلى اللغات التی کثر استعمالها فی معانیها بحیث تتبادر المعانی إلى ذهن کلّ من أنس باللسان ولو کان من غیر أهله.
ولا یخفى أنّ کلمة «الضرر» من اللغات التی یمکن فی تعیین معناها أعمال کلّ واحد من هذه الطرق.
أمّا الطریق الأوّل ففی مفردات الراغب: «الضرّ(1) سوء الحال إمّا فی النفس لقلّة العمل والفضل وإمّا فی البدن لعدم جارحة ونقص، وأمّا فی الحال من قلّة مال وجاه».
ولا تخفى المسامحة الموجودة فی هذا التعریف مع أنّه من أحسن التعاریف ومع دقّة نظر الراغب فی مفرداته.
والأولى أن یقال، إنّه فقد کلّ ما نجده وننتفع به من مواهب الحیاة من نفس أو مال أو عرض أو غیر ذلک فلا ینحصر الأمر فی ما ذکره، إلاّ أن یکون ما ذکره من قبیل ذکر المثال.
وفی لسان العرب: الضَرّ والضُرّ لغتان، کلّ ما کان من سوء حال أو فقر أو شدّة فی بدن فهو ضُرّ وما کان ضدّاً للنفع فهو ضَرّ.
وفی کتاب العین (للخلیل بن أحمد): الضَرّ والضُرّ لغتان فإذا جمعت بین الضرّ والنفع فتحت الضاد، وإذا اُفردت الضرّ ضمّمت الضاد إذا لم تجعله مصدراً، هکذا یستعمله العرف، والضرر النقصان یدخل فی الشیء.
وفی مختار الصحاح: الضرّ ضدّ النفع والضُرّ بالضمّ الهزل وسوء الحال.
ونقل فی المفردات عن الکلّیات: الضَرّ بالفتح شائع فی کلّ ضرر وبالضمّ خاصّ بما فی النفس کمرض وهزل.
وفی المقاییس: له ثلاثة اُصول: الأوّل خلاف النفع، والثانی اجتماع الشیء، والثالث القوّة، ثمّ قال: الضَرّة اسم مشتقّ من الضَرّ کأنّها تضرّ الاُخرى کما تضرّها تلک، ثمّ مثّل المعنى الثانی بضرّة الإبهام وهو اللحم المجتمع تحتها، بضرّة الضرع: لحمته، قال أبو عبیدة: الضرّة التی لا تخلو من اللبن، وسمّیت بذلک لاجتماعها، ومثّل المعنى الثالث بالضریر، وهو قوّة النفس، یقال: فلان ذو ضریر أی ذا صبر على الشیء وذا مقاصاة.
أقول: یمکن إرجاع المعنى الثانی والثالث إلى المعنى الأوّل لأنّ استعمال الضرّة مثلا فی «الضرّتان» یکون بلحاظ اضرار کلّ واحدة منهما بالاُخرى، ولازمه اجتماعهما على الاضرار، ولأنّ الصبر على الشدائد (فی المعنى الثالث) أیضاً یلازم الضرر غالباً.
وفی القاموس: أنّه ضدّ النفع وأنّه سوء الحال.
وفی المصباح: «ضرّه یضرّه من باب قتل، إذا فعل به مکروهاً و... قد اُطلق على نقص یدخل الأعیان».
وفی النهایة: «لا ضرَرَ ولا ضرار فی الإسلام ... أی لا یضرّ الرجل أخاه فینقصه شیئاً من حقّه».
والظاهر أنّ اختلاف أرباب اللغة فی تعبیراتهم لیس لاختلافهم فی معنى الکلمة بل من جهة وضوح المعنى، وإنّ کلّ واحد منهم أشار إلیه من ناحیة، بل یمکن أن یقال بعدم الحاجة إلى الرجوع إلى أقوال علماء اللغة فی أمثال المقام بعد إمکان الرجوع إلى ما یتبادر منه إلى أذهاننا، لأنّ من یزاول هذه اللغة کمزاولتنا یعدّ من أهل الخبرة بالنسبة إلى أمثال هذه اللغات المعروفة التی یکثر دورانها فی الألسن کما لا یخفى.
والذی نجده من إرتکازنا الحاصل من تتبّع موارد استعمالات کلمة الضرر هو ما مرّ آنفاً من أنّه عبارة عن فقد کلّ ما نجده وننتفع به من مواهب الحیاة فی النفس أو المال أو العرض أو غیر ذلک.
وبهذا یظهر ما یستفاد من الطریق الثالث (وهو الرجوع إلى التبادر) فالمتبادر من الضرر هو ما ذکره فی المفردات مع تغییر أشرنا إلیه، وأمّا الطریق الثانی (وهو الرجوع إلى موارد الاستعمال) فکذلک یستفاد منه ما یقابل النفع، والشاهد علیه وقوع عنوان الضرر فی کثیر من موارد الاستعمال فی مقابل عنوان النفع، ویکفیک فی هذا المجال ملاحظة الموارد التی وردت فی کتاب الله العزیز کقوله تعالى: (فَیَتَعَلَّمُونَ مَا یَضُرُّهُمْ وَلاَ یَنفَعُهُمْ) وقوله: (یَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ یَضُرُّهُ وَمَا لاَ یَنْفَعُهُ) وقوله: (لاَ یَمْلِکُونَ لاَِنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً).
هذا کلّه فی معنى کلمة «الضرر».
وأمّا «الضرار» فحیث إنّ استعماله لیس کثیراً مطّرداً فلا یمکن الرجوع فیه إلى الطریق الثالث وهو التبادر، لعدم حصول إرتکاز واُنس ذهنی بالنسبة إلیه حتّى بالإضافة إلى أهل اللسان، فلابدّ حینئذ من الرجوع إلى الطریقین الآخرین:
أمّا الطریق الأوّل فکلمات اللغویین فیه مختلفة بل ربّما یختلف فیه کلمات لغوی واحد، فقال فی لسان العرب: «وروی عن النبی(صلى الله علیه وآله) أنّه قال: لا ضرر ولا ضرار فی الإسلام ولکلّ واحد من اللفظین معنى غیر آخر فمعنى قوله لا ضرر ... إلى أن قال: وقوله «لا ضرار» أی لا یضارّ کلّ واحد منهما صاحبه، فالضرار منهما معاً والضرر فعل واحد ـ ومعنى قوله «ولا ضرار» أی لا یدخل الضرر على الذی ضرّه ولکن یعفو عنه.
والظاهر أنّ ما ذکره معنیان مختلفان: الأوّل: اضرار کلّ واحد بالآخر، والثانی: المجازاة على الضرر.
ثمّ قال: «قال ابن الأثیر: قوله: لا ضرر، أی لا یضرّ الرجل أخاه، والضرار فِعال من الضرّ أی لا یجازیه على اضراره، والضرر فعل الواحد والضرار فعل الاثنین، والضرر ابتداء الفعل، والضرار الجزاء علیه، وقیل: الضرر ما تضرّ به صاحبک وتنتفع أنت به، والضرار أن تضرّه من غیر أن تنتفع، وقیل هما بمعنى، وتکرارهما للتأکید».
فقد ذکر إلى هنا أربعة معان تکون هى الأساس والعمدة من المعانی التی ذکرناها فی کتابنا القواعد الفقهیّة:
1 ـ أن یکون الضرار بمعنى الضرر.
2 ـ أنّه الاضرار بالغیر بما لا ینتفع به بخلاف الضرر فإنّه الاضرار بما ینتفع.
3 ـ أنّه فعل الاثنین والضرر فعل الواحد.
4 ـ أنّه المجازاة على الضرر والمقابلة بالمثل.
وأمّا تفسیره بالتعمّد بالضرر فیرجع إلى المعنى الثانی، أی الاضرار بالغیر بما لا ینتفع به.
هذا ما یستفاد من لسان العرب، وسائر کتب اللغة اختار کلّ واحد منها بعض هذه الأربعة، نعم ذکر فی القاموس أنّه بمعنى الضیق، وسیأتی ما فیه فی آخر البحث.
وبهذا یظهر أنّ تعیین معنى «الضرار» بالطریق الأوّل مشکل جدّاً.
وأمّا الطریق الثانی، وهو الإطراد وکثرة الإستعمال فالمستفاد منه عدم کونهما بمعنى واحد (أی المعنى الأوّل من المعانی الأربعة) مضافاً إلى أنّه بعید فی نفسه لأنّ أحدهما مصدر الثلاثی المجرّد والآخر مصدر المزید، کما أنّ معنى المجازاة على الضرر (وهو المعنى الرابع) یکون من لوازم باب المفاعلة، وهکذا المعنى الثالث وهو کونه فعل الاثنین فلیسا هما مستفادین من کثرة الاستعمال بل المستفاد من التتبّع فی موارد إستعمال الکلمة فی الکتاب والسنّة إنّما هو المعنى الثانی وهو ـ کما أشرنا ـ عبارة عن التعمّد على الضرر بما لا ینتفع به فقوله تعالى: (وَلاَ تُمْسِکُوهُنَّ ضِرَاراً)معناه الإمساک ثمّ الطلاق بقصد الإیذاء لا بقصد الإمساک والانتفاع کما یشهد علیه قوله تعالى: (لِتَعْتَدُوا)الوارد فی ذیل الآیة وکذلک الروایات الواردة فی ذیلها، وهکذا قوله تعالى: (لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)بناءً على أحد التفسیرین المذکورین سابقاً وهو کونه نهیاً عن اضرار الاُمّ بولدها بترک إرضاعه غیظاً على أبیه وعن اضرار الأب بولده بانتزاعه عن اُمّه طلباً للاضرار بها، وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِیَّة یُوصَى بِهَا أَوْ دَیْن غَیْرَ مُضَارّ)الذی مرّ فی تفسیره أنّه نهى عن الاضرار بالورثة بإقراره بدَین لیس علیه، دفعاً لهم عن میراثهم، وقوله تعالى: (وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا عَلَیْهِنَّ)لأنّه نهی عن الاضرار بالمطلّقات والتضییق علیهنّ فی النفقة والسکنى طلباً للاضرار بهنّ.
هذا کلّه فی الآیات.
وهکذا الروایات، فإنّ معنى قوله (صلى الله علیه وآله) «أنت رجل مضارّ» فی قضیّة سمرة الوارد فی بعض الطرق، وقوله(صلى الله علیه وآله): «ما أراک یاسمرة إلاّ مضارّاً» فی طریق آخر، إنّما هو التعمّد على الضرر مع عدم منفعة عقلائیّة فی عمله، وهکذا روایة ابن حمزة الغنوی لأنّ الوارد فیها: «إذا إزدادت القیمة بالبرء ومع ذلک طلب الرأس والجلد فلیس إلاّ لقصد الاضرار بصاحبه».
فظهر أنّ المستفاد من موارد استعمالات هذه الصیغة فی الکتاب والسنّة إنّما هو الاضرار العمدی بما لا ینتفع به.
وأمّا کونه بمعنى الضیق کما ذکره فی القاموس فإن کان المراد منه هو ما ذکر، فبها، وإلاّ فإن کان المراد منه الایقاع فی الکلفة والحرج فی مقابل الضرر الذی هو إیراد نقص فی الأموال والأنفس فهو أیضاً ممّا لا یمکن المساعدة علیه لعدم کونه ملائماً موارد استعماله کما لا یخفى.
هذا تمام الکلام فی مفاد کلمتی «الضرر» و «الضرار».